مواضيع مماثلة
علي ناصف الطرابلسي - تونس
صفحة 1 من اصل 1
علي ناصف الطرابلسي - تونس
علي ناصف الطرابلسي في ذمة الله
تونس 17 مارس 2008 فقدت الساحة الثقافية التونسية الفنان التشكيلي علي ناصف الطرابلسي الذى وافاه الاجل المحتوم يوم الاثنين عن سن تناهز 60 عاما .
نعت وزارة الثقافة والمحافظة على التراث هذا الفنان الذى يعد من ابرز المختصين في الخط العربي والسجاد الحائطي وقد عرف الى جانب مشاركاته في معارض عربية واجنبية بحضوره المنتظم في المعرض السنوى لاتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين واخرها معرض 2008.
وقد احرز سنة 2004 جائزة الابتكار للبلدان العربية التي تسندها منظمة اليونسكو .
كما نعى اتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين الفنان علي ناصف الطرابلسي العضو بالاتحاد والاستاذ بالمعهد العالي للفنون الجميلة بتونس والذى سعى طوال مسيرته الى تناول الخط العربي بالبحث في الحروفية وجماليتها والى تطوير المنسوج الحائطي واكسابه بعدا فنيا وجماليا.
تونس 17 مارس 2008 فقدت الساحة الثقافية التونسية الفنان التشكيلي علي ناصف الطرابلسي الذى وافاه الاجل المحتوم يوم الاثنين عن سن تناهز 60 عاما .
نعت وزارة الثقافة والمحافظة على التراث هذا الفنان الذى يعد من ابرز المختصين في الخط العربي والسجاد الحائطي وقد عرف الى جانب مشاركاته في معارض عربية واجنبية بحضوره المنتظم في المعرض السنوى لاتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين واخرها معرض 2008.
وقد احرز سنة 2004 جائزة الابتكار للبلدان العربية التي تسندها منظمة اليونسكو .
كما نعى اتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين الفنان علي ناصف الطرابلسي العضو بالاتحاد والاستاذ بالمعهد العالي للفنون الجميلة بتونس والذى سعى طوال مسيرته الى تناول الخط العربي بالبحث في الحروفية وجماليتها والى تطوير المنسوج الحائطي واكسابه بعدا فنيا وجماليا.
آخر حوار مع الفنان التونسي الراحل علي ناصف الطرابلسي
"أتنفّس برئة أصدقائي وألاعب المرض بالحياة"
حوار: نزار شقرون
دام اللّقاء أكثر من ساعة، كان علي يتحدّث بطلاقة وبارتياح وعفويّة و يستسمحني في ردهات الحديث حين كان يحاول أن يشرب قليلا من الماء، كانت القطرات التي تندلق في جوفه لا تستطيع ولوج حلقه بشكل تامّ كانت ترفض أن تدخل جسده الذّاوي، قال لي:"صرت أشتهي شربة ماء" ومع ذلك لم تخنه الكلمات والذّاكرة، لا شيء كان ينبئ برحيله بل كان يقول بلهجة ساخرة "تعرف هذا المرض.. إنّي ألاعبه برغبتي في الحياة" كان علي جالسا علي الكنبة في امتلاء بما يقول ، وكنت لا أمطره بالأسئلة، بل كنّا نتحدّث بتواشج، أستمع إليه وكأنّه يقدّم شهادة علي مرحلة ولم نكن نعلم أنّ ذلك الحديث سيكون آخر حوار ثريّ في حياته.
معاناة العمل
1. بادرته بالحديث عن الفنّ في حياته، أجابني بتركيز شديد:
يحتاج الفنّ إلي الصّدق فكلّما كان الفنّان صادقا كلّما تطوّرت أعماله الفنّيّة، لقد تخرّجت من مجال التّصميم ومع ذلك انفتحت علي مجالات الفنّ التّشكيلي عامّة، وجرّبت محامل متعدّدة بأسلوب حرفي ، أعرف أنّي أشدّد كثيرا علي البعد الحرفي المتقن وهو ما دفعني في أكثر من مناسبة إلي الانفعال، فالفنّان يعيش بانفعالاته ، قد أكون غاليت في ذلك وهو ما أخذ منّي طاقة كبيرة في العمل..إنّي أقدّس العمل، فما زلت أمارس فنّي وأنا في هذا الظّرف كما تعلم، الفنّ وسيلة للحياة ولا أستطيع أن أقبل تقاعسا ما لسبب أو لآخر، لتعلم أنّي حاولت في السّنة الفارطة أن أمارس مهنتي كمدرّس بالمعهد العالي للفنون الجميلة بتونس، كان المدير واصف يحفّزني أيضا رغم علمه بحساسيّة وضعي، وكنت أدخل الورشة مجاهدا النّفس والبدن لأعمل ولكن هذه السّنة ومع ظروفي الصحّيّة ومواعيد العلاج ركنت إلي عملي الخاصّ، ثمّ إنّي لم أعد قادرا علي احتمال معاناة السّير إلي العمل، أو احتمال الضجيج. إنّي أقاوم المرض بالفنّ، وأدرك أنّ عملي الدّؤوب سلاح في وجهه.
- فعلا يكون الفنّ دائما صمّام أمان، أحيانا يجد فيه الإنسان مسوّغا كبيرا للحياة..
-
أتعرف في داخلي قدرة رهيبة علي المواجهة وسأخضع في الأسبوع القادم لمزيد من العلاج الكيميائي.. هناك أشياء أخري تشدّ إلي الحياة، إنّهم الأصدقاء، الأصفياء، إنّك تصطفيهم بمجرّد أن تتحدّث إليهم ، انظر إنّنا نتحدّث إلي بعضنا الآن وكأنّنا ندرك شفرة تواصلنا ، هناك تلقائيّة، وإيمان بالصّداقة.. في فرنسا ذهل الإطار الطّبّي من شدّة عناية صديقي صالح بن عمر الذي رافقني، قال لي أحدهم هل هذا أخوك؟ خيّبت ظنّه حين قلت له بأنّه صديقي ..إنّهم لا يعرفون جيّدا معني الصّداقة، الأصدقاء: الهواء الذي أتنفّسه لا أبالغ إن قلت بأنّي أعيش لأجلهم هم أسرتي، ما معني أن تحيا بلا صديق؟
û -ولكن أين نحن من الخلّ الودود في هذا الزّمن؟
أكرّر لك المسألة تتعلّق بالإيمان، أن نؤمن بوجود حزام أمان، (كان يتحدّث بصوت أجشّ وكانت عيناه متّقدتين كمن يقبض علي الجمر) عرفت في حياتي رجالا حقيقيّين، وهناك أصدقاء مقرّبين..تعرف شخص مثل النّوري عبيد ، إنّه رجل ..هذا زمن غاب فيه الرّجال، فعلا أعيش لأتنفّس هواءهم وحياتهم لم أكن أقدر أن أحيا دونهم.
û لاشكّ أنّ صلاتك بالفنّانين في تونس منحتك رؤية ما لمنزلة الفنّان التونسي.؟
تجعلني أتحدّث عن أمرين أوّلهما أنّ الفنّان في تونس مازل يحتاج إلي مراجعة منزلته ، عليه أن يسأل لماذا هذا هو حاله ، والأمر الثّاني يتعلّق بوضع مؤسّساتي خالص، المجتمع مازال يحمل سوء فهم وتقدير للفنّان وهناك من ينتسب للقطاع فيضرّ بصورة الفنّان التّونسي، أذكر أنّي قلت لصديقي المنجي معتوق حين تقلّد مسؤوليّة اتّحاد الفنّانين التّشكيليّين ، يا منجي"عليك أن تتّعظ من التّجارب ، لا طائل من وضع برامج مستقبليّة كثيرة ، ابدأ بوضع سلّم أولويّات، -وهذا ما ينقصنا في كلّ الهيئات تقريبا- آنظر إلي صورة الفنّان ابدأ بتغييرها وضع يدك علي الداء مباشرة.. ثمّ هناك عائق ما في المؤسّسة الثقافيّة...هناك من يشدّ إلي الوراء للأسف..هناك من هو مسؤول عن هذا الوضع وهي جهة معروفة لدي الجميع ولكنّها لا تتزحزح..كما أنّ الفنّان مسؤول بدوره عن هذا الوضع، أقول البعض من الفنّانين طالما ناديت بأن يتفهّموا بأنّ الفنّ ليس عربدة ومجونا، بأنّ الفنّ يحتاج إلي صورة أخري ،إنّه ليس جنونا مجانيّا، والشّارع ينفر من هذه الصّورة وهي لا تقدّم الصّورة النّموذجيّة ، قلت لهم :ارحموا الفنّ، لا تقدّموا هذه الظّواهر باعتبارها الصّورة الأساسيّة التي تعرّف هويّتكم..
الصدق في التجربة
- لكنّ هناك فنّانين صادقين قدّموا صورة مثلي عن الفنّ وأنت منهم.؟
يحتاج الفنّ إلي كثير من الفنّانين الصّادقين، ولكن حين نقول الصّدق فيعني ذلك الصّدق في التّجربة الفنّيّة ذاتها قبل الصّدق مع النّاس، هناك فنّانين توقّفوا عن الإضافة رغم أنّني لا أستطيع أن أنكر صدقهم مع النّاس ومع تجربتهم السّابقة، يحتاج الفنّ إلي بحث مستمرّ ولهذا كنت أختبر كلّ مرّة أشياء جديدة أتطلّع إلي آفاق لا أعرفها لماذا لا نفهم الفنّ بأنّه مغامرة في المجهول لماذا نفكّر في العرض مثلا دون أن نأتي بالجديد؟ لا أعرف هناك شعور يقول لي دائما إنّ شيئا ما سيظهر في قادم التّجربة فأنجذب نحوه، ما هو لا أعرف بالتّحديد ويبقي مسار البحث هو المتعة الكبري.
û تتحدّث عن البحث الفنّي ما رأيك في دعوة البعض إلي تهميش البحث عن النّظري؟
أنت تعلم بأنّي أؤمن بالحِرفيّة ولكنّ ذلك لا ينفي إيماني العميق بالبحث النّظري، صحيح أنّ هناك من الفنّانين من يدبرون عن القراءة والتّفكير ظنّا منهم أنّ التّقنية هي الفنّ وهذا خطأ فادح ، ثمّة جدل بل ديناميكيّة بين الجانب النّظري والجاني التّطبيقي، ففي الجامعة اليوم يتمّ إهمال الجانب النّظري وهذا ما يجعل الفنّان غير قادر علي إنشاء خطاب حول مشروعه فيسقط المشروع في الهواء(يتوجّه في الأثناء إلي آمنة) أحيانا يكون العمل الفنّي علي جودة عالية ولكنّ صاحبه لا يعرف كيف يقدّمه فيفشل العمل ..في إنشاء العمل الفنّي يساعد البعد النّظري علي تطوير العمل كما يفرز الجانب التّطبيقي أفكارا جديدة يجب تسجيلها هناك ديالكتيك إذن لا يمكن تجاهله.
- يقوم البعض اليوم بتقديس التّقنية والانصراف إلي فنون جديدة بدعوي أنّها ستحلّ محلّ التّصوّرات القديمة للفنّ.
يجب أن ننظر إلي هذا الجديد بشيء من التّروّي، أخشي أن يكون التجاء البعض إلي الفنّ الرّقمي نوعا من الفشل في مواصلة البحث في المشروع الفنّي..عدنا إلي مسألة التّقنية..التّجريب مهمّ ولكن هناك تجارب فشل أصحابها في الاستمرار فلماذا الهروب إلي الأمام؟
û تحدّثت عن صـورة الفنّان في تونس ألا تعتقد بأنّ الأروقة الفنّيّة لها دور في تحقيق صورة ما ؟
للأروقة دور هامّ وعلينا أن ننظر إليها باعتبارها تمثّل الجانب التّجاري من العمليّة الفنّيّة، أتذكّر أنّي اختلفت مرّة في الرّأي مع صديقي الحبيب بيده حين قلت بأنّ رواق "شيم" لن يستمرّ إذ لا يمكن أن تتمّ إدارته بشكل لا يتناسب مع العمليّة التّجاريّة بينما كان الحبيب ينظر إليه كمشروع ثقافي فقط. ألا يحقّ للفنّان أن ينظر إلي الجانب التّجاري فليس عيبا أن يقع التّفكير في ذلك وعندما نقول مصطلح رواق فإنّنا نعني البعد التّجاري في المقام الأوّل ، وقد حدست أفول تجربة رواق "شيم" مثلا، ولذلك أيضا أسباب أخري..
- نحتاج اليوم عندما نتحدّث عن التّجارب الفنّيّة أن نوثّق لها وأذكر أنّ الفنّان رشيد الفخفاخ قال لي بأنّ أرشيف رواق "شيم" اجتاحته مياه الفيضانات وضاع الإرث التّوثيقي بذلك.؟
هناك مشكلة في التّوثيق، أنا شخصيّا لم أنتبه إلي ذلك إلاّ الآن، وأحاول أن أجمع ما أمكن من وثائق عن تجربتي..س
û أنت تعلم بأننا نفكّر في إنجاز كتاب عن تجربتك..وقد تباطأت في المشروع، لا أعرف ما هي الأسباب ربّما قصدت الإتقان..؟
حسنا فعلت، أريد أن ينجز الكتاب بتريّث كبير، وأنا حريص علي جمع الصّور ، المشكلة أنّ أعمالي مشتّتة (يسكت قليلا) لم أفكّر في هذا اليوم عشت برغبة الحياة والعبور بلا توثيق للمراحل ، لم أهيّء نفسي، علي كلّ لم نخسر شيئا لدينا مزيد من الوقت بعد الأسبوع القادم، أخضع لحصص العلاج ثمّ أتدبّر أمر إخراج أعمالي الأخيرة من الدّيوانة التّونسيّة، هذا ضروري حتّي تدرج ضمن الكتاب.
اقترحت أن يكون الكتاب غير مثقل بالنّصوص فهو لا يتّخذ الطّابع التّوثيقي، إنّه كتاب فنّي بالأساس.
ذاك ما أريد، نكتفي بنصّ واحد مختزل ودقيق عن تجربتي الفنّيّة ونخصّص الجزء الأكبر لنماذج الأعمال الفنّيّة، لا داعي للتّسرّع طيلة حياتي عملت بلا تسرّع ، فما بالك بمشروع يؤرّخ لتجربتي.
بدأ حديثي مع الفنّان علي الطّرابلسي يشحّ شيئا فشيئا، كنت أشعر بثقل اللّحظات الأخيرة فقد كان بين الفينة والأخري يطلب الماء فيحاول الشّرب ولكن دون جدوي، ذلك الماء:الإبداع في اصطلاح العرب يمتنع عن التّدفّق ، كأنّه إشارة الرّحيل. قلت لعلي: "هل ستأتي غدا إلي افتتاح الصّالون السّنوي للنّحت والخزف؟" أجاب" سيحضرني صالح في الغد" وفعلا قدم الفنّان علي الطّرابلسي إلي الافتتاح وكان يلهث بين متر وآخر وأنا أسنده في ممشي المعهد العالي للفنون بصفاقس فيداهمني شعور فظيع كما لو أنّني أسند تمثالا من ريح. ثمّ دخلنا الرّواق وأخذ يصافح أصدقاءه من الفنّانين، فاجأهم جميعا بمجيئه، بقي يتجوّل بتثاقل أمام الأعمال الفنّيّة، حدّق فيها مليّا ، كانت الأعضاء فيه تموت كلّ لحظة وكان يقف في وجه الموت هازئا، مات واقفا في مدينته، عيناه علي الفنّ وعلي أصدقائه. ألم يقل صالح بأنّنا ننتظر قدوم النّوري من السّفر حتّي نتسامر في يوم الميلاد، ولكن شاء الموت أن يختطف علي وأن نبقي وحيدين في الميلاد.
حوار: نزار شقرون
دام اللّقاء أكثر من ساعة، كان علي يتحدّث بطلاقة وبارتياح وعفويّة و يستسمحني في ردهات الحديث حين كان يحاول أن يشرب قليلا من الماء، كانت القطرات التي تندلق في جوفه لا تستطيع ولوج حلقه بشكل تامّ كانت ترفض أن تدخل جسده الذّاوي، قال لي:"صرت أشتهي شربة ماء" ومع ذلك لم تخنه الكلمات والذّاكرة، لا شيء كان ينبئ برحيله بل كان يقول بلهجة ساخرة "تعرف هذا المرض.. إنّي ألاعبه برغبتي في الحياة" كان علي جالسا علي الكنبة في امتلاء بما يقول ، وكنت لا أمطره بالأسئلة، بل كنّا نتحدّث بتواشج، أستمع إليه وكأنّه يقدّم شهادة علي مرحلة ولم نكن نعلم أنّ ذلك الحديث سيكون آخر حوار ثريّ في حياته.
معاناة العمل
1. بادرته بالحديث عن الفنّ في حياته، أجابني بتركيز شديد:
يحتاج الفنّ إلي الصّدق فكلّما كان الفنّان صادقا كلّما تطوّرت أعماله الفنّيّة، لقد تخرّجت من مجال التّصميم ومع ذلك انفتحت علي مجالات الفنّ التّشكيلي عامّة، وجرّبت محامل متعدّدة بأسلوب حرفي ، أعرف أنّي أشدّد كثيرا علي البعد الحرفي المتقن وهو ما دفعني في أكثر من مناسبة إلي الانفعال، فالفنّان يعيش بانفعالاته ، قد أكون غاليت في ذلك وهو ما أخذ منّي طاقة كبيرة في العمل..إنّي أقدّس العمل، فما زلت أمارس فنّي وأنا في هذا الظّرف كما تعلم، الفنّ وسيلة للحياة ولا أستطيع أن أقبل تقاعسا ما لسبب أو لآخر، لتعلم أنّي حاولت في السّنة الفارطة أن أمارس مهنتي كمدرّس بالمعهد العالي للفنون الجميلة بتونس، كان المدير واصف يحفّزني أيضا رغم علمه بحساسيّة وضعي، وكنت أدخل الورشة مجاهدا النّفس والبدن لأعمل ولكن هذه السّنة ومع ظروفي الصحّيّة ومواعيد العلاج ركنت إلي عملي الخاصّ، ثمّ إنّي لم أعد قادرا علي احتمال معاناة السّير إلي العمل، أو احتمال الضجيج. إنّي أقاوم المرض بالفنّ، وأدرك أنّ عملي الدّؤوب سلاح في وجهه.
- فعلا يكون الفنّ دائما صمّام أمان، أحيانا يجد فيه الإنسان مسوّغا كبيرا للحياة..
-
أتعرف في داخلي قدرة رهيبة علي المواجهة وسأخضع في الأسبوع القادم لمزيد من العلاج الكيميائي.. هناك أشياء أخري تشدّ إلي الحياة، إنّهم الأصدقاء، الأصفياء، إنّك تصطفيهم بمجرّد أن تتحدّث إليهم ، انظر إنّنا نتحدّث إلي بعضنا الآن وكأنّنا ندرك شفرة تواصلنا ، هناك تلقائيّة، وإيمان بالصّداقة.. في فرنسا ذهل الإطار الطّبّي من شدّة عناية صديقي صالح بن عمر الذي رافقني، قال لي أحدهم هل هذا أخوك؟ خيّبت ظنّه حين قلت له بأنّه صديقي ..إنّهم لا يعرفون جيّدا معني الصّداقة، الأصدقاء: الهواء الذي أتنفّسه لا أبالغ إن قلت بأنّي أعيش لأجلهم هم أسرتي، ما معني أن تحيا بلا صديق؟
û -ولكن أين نحن من الخلّ الودود في هذا الزّمن؟
أكرّر لك المسألة تتعلّق بالإيمان، أن نؤمن بوجود حزام أمان، (كان يتحدّث بصوت أجشّ وكانت عيناه متّقدتين كمن يقبض علي الجمر) عرفت في حياتي رجالا حقيقيّين، وهناك أصدقاء مقرّبين..تعرف شخص مثل النّوري عبيد ، إنّه رجل ..هذا زمن غاب فيه الرّجال، فعلا أعيش لأتنفّس هواءهم وحياتهم لم أكن أقدر أن أحيا دونهم.
û لاشكّ أنّ صلاتك بالفنّانين في تونس منحتك رؤية ما لمنزلة الفنّان التونسي.؟
تجعلني أتحدّث عن أمرين أوّلهما أنّ الفنّان في تونس مازل يحتاج إلي مراجعة منزلته ، عليه أن يسأل لماذا هذا هو حاله ، والأمر الثّاني يتعلّق بوضع مؤسّساتي خالص، المجتمع مازال يحمل سوء فهم وتقدير للفنّان وهناك من ينتسب للقطاع فيضرّ بصورة الفنّان التّونسي، أذكر أنّي قلت لصديقي المنجي معتوق حين تقلّد مسؤوليّة اتّحاد الفنّانين التّشكيليّين ، يا منجي"عليك أن تتّعظ من التّجارب ، لا طائل من وضع برامج مستقبليّة كثيرة ، ابدأ بوضع سلّم أولويّات، -وهذا ما ينقصنا في كلّ الهيئات تقريبا- آنظر إلي صورة الفنّان ابدأ بتغييرها وضع يدك علي الداء مباشرة.. ثمّ هناك عائق ما في المؤسّسة الثقافيّة...هناك من يشدّ إلي الوراء للأسف..هناك من هو مسؤول عن هذا الوضع وهي جهة معروفة لدي الجميع ولكنّها لا تتزحزح..كما أنّ الفنّان مسؤول بدوره عن هذا الوضع، أقول البعض من الفنّانين طالما ناديت بأن يتفهّموا بأنّ الفنّ ليس عربدة ومجونا، بأنّ الفنّ يحتاج إلي صورة أخري ،إنّه ليس جنونا مجانيّا، والشّارع ينفر من هذه الصّورة وهي لا تقدّم الصّورة النّموذجيّة ، قلت لهم :ارحموا الفنّ، لا تقدّموا هذه الظّواهر باعتبارها الصّورة الأساسيّة التي تعرّف هويّتكم..
الصدق في التجربة
- لكنّ هناك فنّانين صادقين قدّموا صورة مثلي عن الفنّ وأنت منهم.؟
يحتاج الفنّ إلي كثير من الفنّانين الصّادقين، ولكن حين نقول الصّدق فيعني ذلك الصّدق في التّجربة الفنّيّة ذاتها قبل الصّدق مع النّاس، هناك فنّانين توقّفوا عن الإضافة رغم أنّني لا أستطيع أن أنكر صدقهم مع النّاس ومع تجربتهم السّابقة، يحتاج الفنّ إلي بحث مستمرّ ولهذا كنت أختبر كلّ مرّة أشياء جديدة أتطلّع إلي آفاق لا أعرفها لماذا لا نفهم الفنّ بأنّه مغامرة في المجهول لماذا نفكّر في العرض مثلا دون أن نأتي بالجديد؟ لا أعرف هناك شعور يقول لي دائما إنّ شيئا ما سيظهر في قادم التّجربة فأنجذب نحوه، ما هو لا أعرف بالتّحديد ويبقي مسار البحث هو المتعة الكبري.
û تتحدّث عن البحث الفنّي ما رأيك في دعوة البعض إلي تهميش البحث عن النّظري؟
أنت تعلم بأنّي أؤمن بالحِرفيّة ولكنّ ذلك لا ينفي إيماني العميق بالبحث النّظري، صحيح أنّ هناك من الفنّانين من يدبرون عن القراءة والتّفكير ظنّا منهم أنّ التّقنية هي الفنّ وهذا خطأ فادح ، ثمّة جدل بل ديناميكيّة بين الجانب النّظري والجاني التّطبيقي، ففي الجامعة اليوم يتمّ إهمال الجانب النّظري وهذا ما يجعل الفنّان غير قادر علي إنشاء خطاب حول مشروعه فيسقط المشروع في الهواء(يتوجّه في الأثناء إلي آمنة) أحيانا يكون العمل الفنّي علي جودة عالية ولكنّ صاحبه لا يعرف كيف يقدّمه فيفشل العمل ..في إنشاء العمل الفنّي يساعد البعد النّظري علي تطوير العمل كما يفرز الجانب التّطبيقي أفكارا جديدة يجب تسجيلها هناك ديالكتيك إذن لا يمكن تجاهله.
- يقوم البعض اليوم بتقديس التّقنية والانصراف إلي فنون جديدة بدعوي أنّها ستحلّ محلّ التّصوّرات القديمة للفنّ.
يجب أن ننظر إلي هذا الجديد بشيء من التّروّي، أخشي أن يكون التجاء البعض إلي الفنّ الرّقمي نوعا من الفشل في مواصلة البحث في المشروع الفنّي..عدنا إلي مسألة التّقنية..التّجريب مهمّ ولكن هناك تجارب فشل أصحابها في الاستمرار فلماذا الهروب إلي الأمام؟
û تحدّثت عن صـورة الفنّان في تونس ألا تعتقد بأنّ الأروقة الفنّيّة لها دور في تحقيق صورة ما ؟
للأروقة دور هامّ وعلينا أن ننظر إليها باعتبارها تمثّل الجانب التّجاري من العمليّة الفنّيّة، أتذكّر أنّي اختلفت مرّة في الرّأي مع صديقي الحبيب بيده حين قلت بأنّ رواق "شيم" لن يستمرّ إذ لا يمكن أن تتمّ إدارته بشكل لا يتناسب مع العمليّة التّجاريّة بينما كان الحبيب ينظر إليه كمشروع ثقافي فقط. ألا يحقّ للفنّان أن ينظر إلي الجانب التّجاري فليس عيبا أن يقع التّفكير في ذلك وعندما نقول مصطلح رواق فإنّنا نعني البعد التّجاري في المقام الأوّل ، وقد حدست أفول تجربة رواق "شيم" مثلا، ولذلك أيضا أسباب أخري..
- نحتاج اليوم عندما نتحدّث عن التّجارب الفنّيّة أن نوثّق لها وأذكر أنّ الفنّان رشيد الفخفاخ قال لي بأنّ أرشيف رواق "شيم" اجتاحته مياه الفيضانات وضاع الإرث التّوثيقي بذلك.؟
هناك مشكلة في التّوثيق، أنا شخصيّا لم أنتبه إلي ذلك إلاّ الآن، وأحاول أن أجمع ما أمكن من وثائق عن تجربتي..س
û أنت تعلم بأننا نفكّر في إنجاز كتاب عن تجربتك..وقد تباطأت في المشروع، لا أعرف ما هي الأسباب ربّما قصدت الإتقان..؟
حسنا فعلت، أريد أن ينجز الكتاب بتريّث كبير، وأنا حريص علي جمع الصّور ، المشكلة أنّ أعمالي مشتّتة (يسكت قليلا) لم أفكّر في هذا اليوم عشت برغبة الحياة والعبور بلا توثيق للمراحل ، لم أهيّء نفسي، علي كلّ لم نخسر شيئا لدينا مزيد من الوقت بعد الأسبوع القادم، أخضع لحصص العلاج ثمّ أتدبّر أمر إخراج أعمالي الأخيرة من الدّيوانة التّونسيّة، هذا ضروري حتّي تدرج ضمن الكتاب.
اقترحت أن يكون الكتاب غير مثقل بالنّصوص فهو لا يتّخذ الطّابع التّوثيقي، إنّه كتاب فنّي بالأساس.
ذاك ما أريد، نكتفي بنصّ واحد مختزل ودقيق عن تجربتي الفنّيّة ونخصّص الجزء الأكبر لنماذج الأعمال الفنّيّة، لا داعي للتّسرّع طيلة حياتي عملت بلا تسرّع ، فما بالك بمشروع يؤرّخ لتجربتي.
بدأ حديثي مع الفنّان علي الطّرابلسي يشحّ شيئا فشيئا، كنت أشعر بثقل اللّحظات الأخيرة فقد كان بين الفينة والأخري يطلب الماء فيحاول الشّرب ولكن دون جدوي، ذلك الماء:الإبداع في اصطلاح العرب يمتنع عن التّدفّق ، كأنّه إشارة الرّحيل. قلت لعلي: "هل ستأتي غدا إلي افتتاح الصّالون السّنوي للنّحت والخزف؟" أجاب" سيحضرني صالح في الغد" وفعلا قدم الفنّان علي الطّرابلسي إلي الافتتاح وكان يلهث بين متر وآخر وأنا أسنده في ممشي المعهد العالي للفنون بصفاقس فيداهمني شعور فظيع كما لو أنّني أسند تمثالا من ريح. ثمّ دخلنا الرّواق وأخذ يصافح أصدقاءه من الفنّانين، فاجأهم جميعا بمجيئه، بقي يتجوّل بتثاقل أمام الأعمال الفنّيّة، حدّق فيها مليّا ، كانت الأعضاء فيه تموت كلّ لحظة وكان يقف في وجه الموت هازئا، مات واقفا في مدينته، عيناه علي الفنّ وعلي أصدقائه. ألم يقل صالح بأنّنا ننتظر قدوم النّوري من السّفر حتّي نتسامر في يوم الميلاد، ولكن شاء الموت أن يختطف علي وأن نبقي وحيدين في الميلاد.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى