فالواقع لم يعد واقعاً بعينه بل ذهب ابعد من ذلك فأخذ ينطلق مما تراه الذات الانسانية على انه واقع ثقافي له القابلية على كشف الحقيقة الكامنة داخل العقل الثقافي ، من خلال ماهو بصري متحداً مع ماهو ذهني وتراكم المعرفة عبر التاريخ للبدء بضخ نتاج له قابيلة ان تتمثل من خلاله ثقافة اليوم دون التقيد بضغوط اللغة أو العوامل النفسية والاجتماعية او حتى ضغوط الزمان والمكان .

أذ أخذت الصياغة البصرية تترجم لواقع مفهومي ، غاية لتأسيس المفاهيم عالمياً.

وكل ذلك انطلق ضمن واقع بنائي لثقافة مرئية بالدرجة الاولى مستغلاً التحول التقني في حركة الحضارة المعاصرة التي تتخذ من الابداع مصدراً لرفد صورتها ، وهذا الابداع يرى أبعاداً صفتها التجدد وهو الاكثر كشفاً عن الواقع الثقافي المنطلق من البصري..

فالثقافة البصرية ماهي الا ذلك التجسيد لمعارف الجانب الآخر من الذات ، والصورة احدى هذه الوسائل التي تستجمع نفسها من خلال تكثيفها لمجموعة التأويلات وبالتالي يكون هدفها الكشف عن جوهر الفكر المعاصر وطرح صورته الثقافية .



وهذه الصورة العيانية يتحقق من خلالها الاتصال البصري الذي يشكل محاولة فاعلة لربط اللاوعي والخيال البشري للوصول الى غاية التمرد الذاتي على كل ماهو تقليدي وكسر السياق التاريخي من اجل تحقيق الصيغ المفهومية التي تكشف عن صورة الثقافة البصرية وربطها بالمعاصرة .

فالبصري اليوم يحتل العالم شئنا ما ابينا ، فأذا لم نكن على استعداد لخلق صيغنا البصرية فأننا لم نتمكن من رأب الفجوة المفهومية التي تبتعد بركبنا عن ماهو عالمي في آخر الامر ، وعليه فأن من الضروري جداً بل من الحتمي التحول في فهم النص البصري بعد ان كنا بارعين في فك شفرة النص المكتوب والكشف عن حجومه التأويلية . فالذهاب بأتجاه أيجاد أمكانيات تأويلية للصورة والتدريب على قراءة ماورائها محاولة لخلق واقع ثقافي قائم على أساس المرئي ، له القابلية على الانفتاح نحو المنظومة المفهومية لعالم اليوم والبحث في مناطق ماوراء النص البصري يكشف بدوره عن الجديد الغير خاضع للتداول وبالتالي تحقيق أنماط غير مألوفة وتشكيل بعدها المفهومي بأتجاه بلورة صيغة جديدة لتغيير الذوق العام فيما بعد .

ان ثقافتنا البصرية العربية لم تأخذ هذا النمحى في زمن الحداثة الا على نطاق محدود ، لان الصورة بقيت سطحية في اغلب المراحل ، في حين نراها قد بدأت تحتل العالم الثقافي بطريقة قد تجعل من المستقبل مستقبلاً قائم في بنائه الحضاري على المرئي بشكل يكاد يكون مطلقاً ، فمن الضروري التحرك بأتجاه حركة العالم الثقافية وخصوصاً أننا أثرياء التاريخ ، ولنا خزين مرجعي كبير يمكننا ان ننطلق لتأسيس صورتنا الحضارية وفق (ميكانزم) الثقافة البصرية التي تدفع بنا باتجاه المعاصرة ، وبناء قاعدة تداولية قائمة على أساس الواقع الثقافي اليوم ..

وهذا كله بحاجة الى خلق المؤسسات التي تدعم وتنمي هذا الاتجاه وبشكل أستثنائي ، لانها ستكون بمواجهة مع ثقافة السائد وتعاني ضغوط كبيرة لعدم الانفلات من فلك المتداول ورقابة التاريخ والانطلاق نحو بناء صورة الثقافة اليوم على اساس يمكننا من ابداع مفاهيمنا الخاصة التي لها القدرة على الاندماج مع مفاهيم عالم اليوم الحداثي .

فأذا لم نفهم عالم اليوم فأننا بالتأكيد سنبقى خارجه . أنها مهمة ليست بالسهلة لكنها ليست بالمستحيلة لاننا نملك أرثاً بصرياً كبيراً لو نظرنا اليه بشكل جيد..