مواضيع مماثلة
من خلال بعض رسائل الماجستير والدكتوراه بتونس - سمير التريكي
صفحة 1 من اصل 1
24072008
من خلال بعض رسائل الماجستير والدكتوراه بتونس - سمير التريكي
من خلال بعض رسائل الماجستير والدكتوراه بتونس
بحث في الأبعاد الفكرية للمفاهيم والمصطلحات في تدريس الفنون
نتناول في هذه المداخلة نماذج من المفاهيم والمصطلحات المستعملة في تدريس الفنون التشكيلية في تونس بدون أن تتم مراجعة أبعادها الفكرية أو تفحص ظروف نشأتها وهي عمليات تبدو لنا أساسية في البحث العلمي خاصة إذا كانت هذه المفاهيم والمصطلحات غربية الأصل وذلك شيء دارج إذ نجدها منتشرة بكثافة في عديد الكتابات الأكاديمية العربية المختصة كما نجد لها صدى واسع في الدراسات والبحوث الجامعية الحديثة من رسائل ماجستير ودكتوراه وغيرها التي تعتمد غالبا على الكتابات الأولى مما يعني أن بعض هذه المفاهيم والمصطلحات تمر من جيل إلى جيل دون أن تتم مراجعتها باعتبار التغييرات التي يمكن أن تطرأ عليها سواء كان ذلك من خلال تطورها داخليا أو من خلال تطور نظرتنا إليها. ونظرا لكثرة الأمثلة التي يمكن أن نسوقها واعتبارا للحيز الضيق المتاح لنا في هذه المناسبة، ارتأينا أن نقتصر هنا على عدد محدود من هذه النماذج نتعامل معها كعينات يمكن أن توجد وتتكرر في العديد من المناسبات.
و قد استخرجنا هذه العينات من دراسة جامعية واحدة وهي اطروحة لنيل شهادة الدكتوراه قدمت مؤخرا في تونس (1). واختيارنا لهذا المثال ليس بغاية الإستنقاص من قيمته العلمية، وقد كنا شاركنا في مناقشته وشهدنا بجديته في عدة مستويات، ولكن للدلالة أنه رغم جدية البحث والمستوى المرموق للشهادة العلمية، فإنه ما زالت أمامنا كباحثين وكمدرسين بعض الأشواط للتخلص من بعض المفاهيم والمصطلحات التي بقينا نتعامل معها ببديهية مفرطة بعد أن أسقطت على واقعنا الثقافي في ظروف مغايرة يفرض علينا وعينا بالتاريخ حاليا مراجعتها وتطويرها حتى نصلح ما بحالنا من شوائب.
ونسوق فيما يلي هذه العينات التي نقدمها في شكل شواهد، وقد حددنا عددها بثلاثة سيكون بمثل عددها محاور هذه المداخلة المتواضعة. واخترنا أن يكون الشاهدين الأولين لصاحب البحث الذي اعتمدناه لاستخراج الأمثلة بينما يكون الشاهد الثالث لأحد المختصين العرب البارزين ، مشهود له بالقدرة في البحوث الفنية، وقد تم اعتماده في البحث المشار إليه كمرجع أخذ كما جاء بدون السعي الى تفحصه ومناقشته.
الشاهد الأول:
«دخل الفن المعاصر إلى البلاد العربية متأخرا. أعوام قليلة تفصل بين نهضة هذا القطر – الفنية ـ أو ذاك ولكن بالمحصلة، فإن الفن التشكيلي بمفهومه الغربي قد تأخر حتى تغلـغل في ثـــقافة المنــطقة...» ( الحويجة ( سامر ) ص. 8 ).
وتستوقفنا في هذا الشاهد جمل ثلاث:
ـ « دخل الفن المعاصر إلى البلاد العربية متأخرا». وقد أراد الباحث أن يقول أن البلاد العربية تأخرت في إدخال الفن المعاصر وتعبر الفكرة في كلتا الحالتين عن حقيقة تفيد في مضمونها أن الفن المعاصر شيء يوجد في المطلق، ليست له هوية، يدخل إلى البلدان مبكرا أو متأخرا حسب عوامل وظروف لم يتم التصريح بها ولكن يمكن أن نفهم من الجملة الموالية أن دخول الفن المعاصر له علاقة بالنهضة الفنية للأقطار العربية. إذ يقول الباحث:
ـ « أعوام قليلة تفصل بين النهضة الفنية لهذا القطر أو ذاك». و الفكرة الثانية المدرجة هنا هي أن للبلدان العربية نهضة فنية وقد تفصل فقط «أعوام قليلة» بين هذا القطر أو ذاك. والذي يستوقفنا هنا بالذات هو حقيقة الوجود الفعلي لهذه النهضة ومدى ارتباطها وطبيعة علاقتها بما يسمى الفن المعاصر. غير أن الباحث يتمم مقولته بتعويض ما أسماه «الفن المعاصر» بتعبير ثان أكثر وضوحا من حيث مأتاه ولكن أقل دقة من حيث محتواه فيقول:
ـ « إن الفن التشكيلي بمفهومه الغربي قد تأخر حتى تغلغل في ثقافة المنطقة». والملفت للإنتباه هنا هو استعمال صيغة المفرد للفنون التشكيلية فنقول فنا تشكيليا ونؤكد أننا نتناول هذا التعبير بمفهومه الغربي. بينما نعلم أن الفنون التشكيلية ( Plastic Arts / Arts plastiques ) لا تستعمل في الغرب إلا بصيغة الجمع لتشير إلى الفنون المهتمة بالشكل والتشكل ( mise en forme ) ومنها النحت والعمارة والرسم والتصوير...
وتمعننا في هذا الشاهد يجعلنا نفهم أن علاقتنا بما سمي هنا «الفن المعاصر» علاقة تحكمها مصادره الجغرافية وأن نهضتنا حتى وإن اعتبرنا إمكانية اقتصارها على الفنون فقط كانت مرتبطة بوقت دخول ما سماه الباحث «الفن المعاصر» إلى بلداننا وهي ليست بالتالي نتيجة لتفاعلات وتغييرات جذرية شملت فكرنا بكل ما يمكن أن يحتويه من تفكير سياسي واجتماعي وعلمي وتقني وعقائدي وفلسفي... ويبدو هنا إشكال ثان في استعمال مصطلح «فن معاصر» للحديث عن واقع العالم العربي. فبينما استطاع مؤرخو الفن في الغرب أن يميزوا بين ما هو حديث ومعاصر في فنونهم على الأقل من وجهة النظر الهيستوغرافية فإن الجدل مازال قائما بين منظري الغرب من مؤرخين ونقاد حول طريقة التعامل مع مصطلح «الفن المعاصر» وعن محتوياته وأشكاله. فبينما يذهب فريق إلى القول بأن الفن المعاصر هو ما تم إنتاجه في الفنون التشكيلية بعد الحرب العالمية الثانية إلى الآن ليكون الحقبة الأخيرة تاريخيا للفن الحديث عندهم، يرى الفريق الثاني أن الفن المعاصر لا يشمل كل ما ينجز الآن باعتبار العنصر الزمني والتاريخي، ويبقى البعد الإسطيتيقي وحده هو المعيار الذي يحيلنا إلى ما هو معاصر وما هو غير معاصر (2). أما عندما ننتقل إلى عالمنا العربي، فنحن لا ندري كيف نتعامل مع هذين المصطلحين ومن أي منطلقات : تاريخية أو اسطيتيقية. والسؤال الذي يمكن أن نطرحه: هل لنا في بلداننا فن معاصر متميز عن فن حديث كما هو الشأن في الغرب، وإن وجدا فما هي حدود كل منهما باعتبار البعد الزمني أو البعد الإسطيتيقي أو كلاهما معا. ونظن أن الباحث الذي نحن بصدد تفحص ما استعمله من مصطلحات قد اقتاد بالهيستوغرافيا الغربية واختار التعامل مع مصطلح «فن معاصر» لتطابق الفترة الزمنية التي درسها مع زمن الفن المعاصر الغربي في تعريفه التاريخي. وإذا كان الأمر كذلك فما هو الفن الحديث في ربوعنا إذا كانت أعمال محمود مختار وجواد سليم محسوبة على الفن المعاصر؟
الشاهد الثاني:
في حديث عن الفنان صلاح عبد الكريم يقول الباحث: «يدرس صلاح عبد الكريم أشكال الكائنات بأسلوب تقريري ناشدا من وراء ذلك إلى معرفة علمية بحتة ثم يعود إ لى هذه الدراسات سابغا عليها نفسا فنيا فتستحيل إلى حيوانات أسطورية مستخدما بذلك أساليب النحت الحديثة وخاماته». (الحويجة، ص 26).
وتستوقفنا في هذا الشاهد جملتين اثنتين:
ـ (استعمال) أسلوب تقريري ناشدا من وراء ذلك معرفة علمية .
ـ استخدام أساليب النحت الحديث.
والفكرة الأساسية هنا هي بيان وتثمين لقدرة الفنان صلاح عبد الكريم في المراوحة بين أسلوبين متباينين: الأسلوب التقريري بغاية المعرفة العلمية من جهة وأساليب النحت الحديث بغاية طبع المنجزات بطابع الحداثة. وفي كلتا الحالتين هناك تعامل مع أساليب خارجية غربية عرفت في مراحل وفترات متباينة في تاريخ الفن الغربي. فالأسلوب التقريري يحيلنا على شكل من أشكال الواقعية وهو تيار وموقف فني قبل أن يكون طريقة أو تقنية. ويرتكز هذا التيار الذي انتشر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على مبدإ وصف الطبيعة بكل موضوعية بالإعتماد على تقنيات الرسم الأكاديمي وقواعده ومنها الدقة في الخطوط واعتماد المنظور الخطي والهوائي وما إلى ذلك من الأشياء التي تفيد بمهارة تقنية فائقة ولكن بدون إبراز أي قيمة فنية ذاتية وسنأتي على مسألة الواقعية في مناقشة الشاهد الثالث اللاحقة. أما عن أساليب النحت الحديث التي وقع «استخدامها» ، والكلمة الأخيرة تدل على التعامل معها كأداة، فليس في كلام الباحث أي معلومة دقيقة تذكر يمكن أن تفيد القارئ. فالمهتم بالنحت الحديث يعرف جيدا تعدد أساليبه وأن الفرق شاسع بما فيه الكفاية بين أعمال برانكوزي من جهة وأعمال جان آرب أو ألكسندر كالدر من جهة أخرى. وبالتالي لا يمكن لأي عارف بالنحت الحديث أن يسمح لنفسه بأن يجمع كل التجارب النحتية تحت عنوان واحد بدون أي تمييز ليستخلص أن كل هذه الأساليب «استخدمها» فنان عربي واحد .
الشاهد الثالث:
في حديث عن الفنان يوسف كامل يستشهد الباحث بمقولة لعفيف البهنسي فيقول : يعرف البهنسي يوسف كامل فيقول إنه «...فنان شاعري صادق وهو وإن درس في إيطاليا عام 1928، إلا أنه لم يتأثر بالنزعات المتطرفة بل بقي لصيقا بالواقعية» . ( عفيف البهنسي، الفن الحديث بالبلاد العربية، ص. 50/الحويجة ص. 28).
وتستوقفنا في هذا الشاهد جملتين اثنتين:
ـ الفنان الصادق
ـ لم يتأثر بالنزعات المتطرفة بل بقي لصيقا بالواقعية
فالصدق المشار إليه هنا هي خصلة من الخصال الأساسية في الممارسة الفنية ولكنها ليست ذا فائدة تذكر إذا اعتبرناها من وجهة الأخلاق فحسب وبدون أن نربطها بالاختيارات الإسطيتيقية التي يعبر من خلالها الفنان عن وعيه التاريخي وشعوره بدوره في المجتمع. فليس في تعبير الكاتب ما يِؤكد صدق الفنان يوسف كامل من وجهة نظره المعرفية للممارسة الفنية خاصة تلك التي يفترض أنه تلقنها في إيطاليا من خلال الدراسة بها. وإبداء الصدق من خلال اجتناب النزعات المتطرفة والالتصاق بالواقعية يجعلنا كقراء نتساءل عن مفهوم الصدق أولا وعن التطرف في الفن ثانيا وعن مفهوم الواقعية أخيرا. فالواقعية كمصطلح أقحم في معجم المفردات التشكيلية العربية بعد نقله عن اللغات الغربية ليكون مماثلا لكلمة Réalisme . وقد عبّر العديد من منظري الفن في الغرب عن صعوبة التعامل مع هذا المصطلح لتعدد تعاريفه فبينما حدد المؤرخون الفترة الزمنية التي ظهرت فيها الواقعية (بالمفهوم الغربي للكلمة) وهي النصف الثاني من القرن التاسع عشر ورتبوها ضمن سلسلة التيارات الفنية التي عرفها الغرب في حداثته فجاءت الواقعية بين الرومانسية ( Romantisme ) والرمزية ( Symbolisme )، يرى النقاد صعوبة في تحديد محتويات الواقعية وأقر بعضهم بتعدد تعاريفها فصنفوا مالا يقل عن خمسة منها بدْء ً ا بأعمال الفنان كورباي ( Courbet ) الذي تحدى المثالية والأفكار المبتذلة التي كان يتميز بها الفن الفرنسي في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وصولا إ لى ما عرف بالواقعية الإشتراكية ثم الواقعية الروسية التي ظهرت في حدود سنة 1920 (1) . ولعل ما يجب أن نعرفه أن الواقعية في مفهومها الغربي لم تكن مقتصرة على الجانب التقني بقدر ما كانت موقفا من وضع اجتماعي كان يسيطر على الفن وبذلك أخذت الواقعية شكلا ثوريا معاد للمثالية وقد خطا في هذا الاتجاه قوستاف كورباي و أدوارد ماناي من بعده ثم تطورت إلى أشكال أخرى.
ولكن ما نعني بالواقعية عندما نتكلم عن تجربة فنية عربية وماذا عن تاريخيتها وتموقعها ضمن الحركات الفنية وعن الموقف الإسطيتيقي الذي تعبر عنه؟ هذا ما لا نجده في كتبنا وفي كتاباتنا وذلك نقص فادح يجب تلافيه بسرعة وبقدر كاف من الجدية.
أ . د. سمير التريكي
أستاذ في الفنون التشكيلية
المعهد العالي للفنون الجميلة بتونس
ـــــــــــــــــ
هوامش
(1) - أنظر: الحويجة (سامر)، فن النحت المعاصر في مصر والعراق. محمود مختار وجواد سليم مثالا . أطروحة دكتوراه في علوم وتقنيات الفنون بالمعهد العالي للفنون الجميلة بتونس بإشراف الأستاذ الحبيب بيدة، جامعة تونس، سبتمبر 2004، 329 صفحة.
(2) - انظر في هذا المجال الكتابات العديدة التي تركز على البعد الإسطيتيقي دون غيره في تحديد المنجزات الفنية المنتمية إلئ الفن المعاصر ونذكر هنا على سبيل المثال كتاب:
MILLET (Catherine), L>art contemporain , Ed. Dominos -Flammarion, Paris, 1997
وكذلك كتابين لـ :
MICHAUD (Yves), La crise de l>art contemporain , PUF, 5 ème édition, Paris, 1999 et L>art à l>état gazeux: Essai sur le triomphe de lesthétique . Ed. Stock Les essais, Paris, 2003
(3) - أنظر: كلمة réalisme في:
SOURIAU (Etienne), Vocabulaire d>esthétique , Ed. PUF, Paris, 1990, pp. 1203-1206
بحث في الأبعاد الفكرية للمفاهيم والمصطلحات في تدريس الفنون
نتناول في هذه المداخلة نماذج من المفاهيم والمصطلحات المستعملة في تدريس الفنون التشكيلية في تونس بدون أن تتم مراجعة أبعادها الفكرية أو تفحص ظروف نشأتها وهي عمليات تبدو لنا أساسية في البحث العلمي خاصة إذا كانت هذه المفاهيم والمصطلحات غربية الأصل وذلك شيء دارج إذ نجدها منتشرة بكثافة في عديد الكتابات الأكاديمية العربية المختصة كما نجد لها صدى واسع في الدراسات والبحوث الجامعية الحديثة من رسائل ماجستير ودكتوراه وغيرها التي تعتمد غالبا على الكتابات الأولى مما يعني أن بعض هذه المفاهيم والمصطلحات تمر من جيل إلى جيل دون أن تتم مراجعتها باعتبار التغييرات التي يمكن أن تطرأ عليها سواء كان ذلك من خلال تطورها داخليا أو من خلال تطور نظرتنا إليها. ونظرا لكثرة الأمثلة التي يمكن أن نسوقها واعتبارا للحيز الضيق المتاح لنا في هذه المناسبة، ارتأينا أن نقتصر هنا على عدد محدود من هذه النماذج نتعامل معها كعينات يمكن أن توجد وتتكرر في العديد من المناسبات.
و قد استخرجنا هذه العينات من دراسة جامعية واحدة وهي اطروحة لنيل شهادة الدكتوراه قدمت مؤخرا في تونس (1). واختيارنا لهذا المثال ليس بغاية الإستنقاص من قيمته العلمية، وقد كنا شاركنا في مناقشته وشهدنا بجديته في عدة مستويات، ولكن للدلالة أنه رغم جدية البحث والمستوى المرموق للشهادة العلمية، فإنه ما زالت أمامنا كباحثين وكمدرسين بعض الأشواط للتخلص من بعض المفاهيم والمصطلحات التي بقينا نتعامل معها ببديهية مفرطة بعد أن أسقطت على واقعنا الثقافي في ظروف مغايرة يفرض علينا وعينا بالتاريخ حاليا مراجعتها وتطويرها حتى نصلح ما بحالنا من شوائب.
ونسوق فيما يلي هذه العينات التي نقدمها في شكل شواهد، وقد حددنا عددها بثلاثة سيكون بمثل عددها محاور هذه المداخلة المتواضعة. واخترنا أن يكون الشاهدين الأولين لصاحب البحث الذي اعتمدناه لاستخراج الأمثلة بينما يكون الشاهد الثالث لأحد المختصين العرب البارزين ، مشهود له بالقدرة في البحوث الفنية، وقد تم اعتماده في البحث المشار إليه كمرجع أخذ كما جاء بدون السعي الى تفحصه ومناقشته.
الشاهد الأول:
«دخل الفن المعاصر إلى البلاد العربية متأخرا. أعوام قليلة تفصل بين نهضة هذا القطر – الفنية ـ أو ذاك ولكن بالمحصلة، فإن الفن التشكيلي بمفهومه الغربي قد تأخر حتى تغلـغل في ثـــقافة المنــطقة...» ( الحويجة ( سامر ) ص. 8 ).
وتستوقفنا في هذا الشاهد جمل ثلاث:
ـ « دخل الفن المعاصر إلى البلاد العربية متأخرا». وقد أراد الباحث أن يقول أن البلاد العربية تأخرت في إدخال الفن المعاصر وتعبر الفكرة في كلتا الحالتين عن حقيقة تفيد في مضمونها أن الفن المعاصر شيء يوجد في المطلق، ليست له هوية، يدخل إلى البلدان مبكرا أو متأخرا حسب عوامل وظروف لم يتم التصريح بها ولكن يمكن أن نفهم من الجملة الموالية أن دخول الفن المعاصر له علاقة بالنهضة الفنية للأقطار العربية. إذ يقول الباحث:
ـ « أعوام قليلة تفصل بين النهضة الفنية لهذا القطر أو ذاك». و الفكرة الثانية المدرجة هنا هي أن للبلدان العربية نهضة فنية وقد تفصل فقط «أعوام قليلة» بين هذا القطر أو ذاك. والذي يستوقفنا هنا بالذات هو حقيقة الوجود الفعلي لهذه النهضة ومدى ارتباطها وطبيعة علاقتها بما يسمى الفن المعاصر. غير أن الباحث يتمم مقولته بتعويض ما أسماه «الفن المعاصر» بتعبير ثان أكثر وضوحا من حيث مأتاه ولكن أقل دقة من حيث محتواه فيقول:
ـ « إن الفن التشكيلي بمفهومه الغربي قد تأخر حتى تغلغل في ثقافة المنطقة». والملفت للإنتباه هنا هو استعمال صيغة المفرد للفنون التشكيلية فنقول فنا تشكيليا ونؤكد أننا نتناول هذا التعبير بمفهومه الغربي. بينما نعلم أن الفنون التشكيلية ( Plastic Arts / Arts plastiques ) لا تستعمل في الغرب إلا بصيغة الجمع لتشير إلى الفنون المهتمة بالشكل والتشكل ( mise en forme ) ومنها النحت والعمارة والرسم والتصوير...
وتمعننا في هذا الشاهد يجعلنا نفهم أن علاقتنا بما سمي هنا «الفن المعاصر» علاقة تحكمها مصادره الجغرافية وأن نهضتنا حتى وإن اعتبرنا إمكانية اقتصارها على الفنون فقط كانت مرتبطة بوقت دخول ما سماه الباحث «الفن المعاصر» إلى بلداننا وهي ليست بالتالي نتيجة لتفاعلات وتغييرات جذرية شملت فكرنا بكل ما يمكن أن يحتويه من تفكير سياسي واجتماعي وعلمي وتقني وعقائدي وفلسفي... ويبدو هنا إشكال ثان في استعمال مصطلح «فن معاصر» للحديث عن واقع العالم العربي. فبينما استطاع مؤرخو الفن في الغرب أن يميزوا بين ما هو حديث ومعاصر في فنونهم على الأقل من وجهة النظر الهيستوغرافية فإن الجدل مازال قائما بين منظري الغرب من مؤرخين ونقاد حول طريقة التعامل مع مصطلح «الفن المعاصر» وعن محتوياته وأشكاله. فبينما يذهب فريق إلى القول بأن الفن المعاصر هو ما تم إنتاجه في الفنون التشكيلية بعد الحرب العالمية الثانية إلى الآن ليكون الحقبة الأخيرة تاريخيا للفن الحديث عندهم، يرى الفريق الثاني أن الفن المعاصر لا يشمل كل ما ينجز الآن باعتبار العنصر الزمني والتاريخي، ويبقى البعد الإسطيتيقي وحده هو المعيار الذي يحيلنا إلى ما هو معاصر وما هو غير معاصر (2). أما عندما ننتقل إلى عالمنا العربي، فنحن لا ندري كيف نتعامل مع هذين المصطلحين ومن أي منطلقات : تاريخية أو اسطيتيقية. والسؤال الذي يمكن أن نطرحه: هل لنا في بلداننا فن معاصر متميز عن فن حديث كما هو الشأن في الغرب، وإن وجدا فما هي حدود كل منهما باعتبار البعد الزمني أو البعد الإسطيتيقي أو كلاهما معا. ونظن أن الباحث الذي نحن بصدد تفحص ما استعمله من مصطلحات قد اقتاد بالهيستوغرافيا الغربية واختار التعامل مع مصطلح «فن معاصر» لتطابق الفترة الزمنية التي درسها مع زمن الفن المعاصر الغربي في تعريفه التاريخي. وإذا كان الأمر كذلك فما هو الفن الحديث في ربوعنا إذا كانت أعمال محمود مختار وجواد سليم محسوبة على الفن المعاصر؟
الشاهد الثاني:
في حديث عن الفنان صلاح عبد الكريم يقول الباحث: «يدرس صلاح عبد الكريم أشكال الكائنات بأسلوب تقريري ناشدا من وراء ذلك إلى معرفة علمية بحتة ثم يعود إ لى هذه الدراسات سابغا عليها نفسا فنيا فتستحيل إلى حيوانات أسطورية مستخدما بذلك أساليب النحت الحديثة وخاماته». (الحويجة، ص 26).
وتستوقفنا في هذا الشاهد جملتين اثنتين:
ـ (استعمال) أسلوب تقريري ناشدا من وراء ذلك معرفة علمية .
ـ استخدام أساليب النحت الحديث.
والفكرة الأساسية هنا هي بيان وتثمين لقدرة الفنان صلاح عبد الكريم في المراوحة بين أسلوبين متباينين: الأسلوب التقريري بغاية المعرفة العلمية من جهة وأساليب النحت الحديث بغاية طبع المنجزات بطابع الحداثة. وفي كلتا الحالتين هناك تعامل مع أساليب خارجية غربية عرفت في مراحل وفترات متباينة في تاريخ الفن الغربي. فالأسلوب التقريري يحيلنا على شكل من أشكال الواقعية وهو تيار وموقف فني قبل أن يكون طريقة أو تقنية. ويرتكز هذا التيار الذي انتشر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على مبدإ وصف الطبيعة بكل موضوعية بالإعتماد على تقنيات الرسم الأكاديمي وقواعده ومنها الدقة في الخطوط واعتماد المنظور الخطي والهوائي وما إلى ذلك من الأشياء التي تفيد بمهارة تقنية فائقة ولكن بدون إبراز أي قيمة فنية ذاتية وسنأتي على مسألة الواقعية في مناقشة الشاهد الثالث اللاحقة. أما عن أساليب النحت الحديث التي وقع «استخدامها» ، والكلمة الأخيرة تدل على التعامل معها كأداة، فليس في كلام الباحث أي معلومة دقيقة تذكر يمكن أن تفيد القارئ. فالمهتم بالنحت الحديث يعرف جيدا تعدد أساليبه وأن الفرق شاسع بما فيه الكفاية بين أعمال برانكوزي من جهة وأعمال جان آرب أو ألكسندر كالدر من جهة أخرى. وبالتالي لا يمكن لأي عارف بالنحت الحديث أن يسمح لنفسه بأن يجمع كل التجارب النحتية تحت عنوان واحد بدون أي تمييز ليستخلص أن كل هذه الأساليب «استخدمها» فنان عربي واحد .
الشاهد الثالث:
في حديث عن الفنان يوسف كامل يستشهد الباحث بمقولة لعفيف البهنسي فيقول : يعرف البهنسي يوسف كامل فيقول إنه «...فنان شاعري صادق وهو وإن درس في إيطاليا عام 1928، إلا أنه لم يتأثر بالنزعات المتطرفة بل بقي لصيقا بالواقعية» . ( عفيف البهنسي، الفن الحديث بالبلاد العربية، ص. 50/الحويجة ص. 28).
وتستوقفنا في هذا الشاهد جملتين اثنتين:
ـ الفنان الصادق
ـ لم يتأثر بالنزعات المتطرفة بل بقي لصيقا بالواقعية
فالصدق المشار إليه هنا هي خصلة من الخصال الأساسية في الممارسة الفنية ولكنها ليست ذا فائدة تذكر إذا اعتبرناها من وجهة الأخلاق فحسب وبدون أن نربطها بالاختيارات الإسطيتيقية التي يعبر من خلالها الفنان عن وعيه التاريخي وشعوره بدوره في المجتمع. فليس في تعبير الكاتب ما يِؤكد صدق الفنان يوسف كامل من وجهة نظره المعرفية للممارسة الفنية خاصة تلك التي يفترض أنه تلقنها في إيطاليا من خلال الدراسة بها. وإبداء الصدق من خلال اجتناب النزعات المتطرفة والالتصاق بالواقعية يجعلنا كقراء نتساءل عن مفهوم الصدق أولا وعن التطرف في الفن ثانيا وعن مفهوم الواقعية أخيرا. فالواقعية كمصطلح أقحم في معجم المفردات التشكيلية العربية بعد نقله عن اللغات الغربية ليكون مماثلا لكلمة Réalisme . وقد عبّر العديد من منظري الفن في الغرب عن صعوبة التعامل مع هذا المصطلح لتعدد تعاريفه فبينما حدد المؤرخون الفترة الزمنية التي ظهرت فيها الواقعية (بالمفهوم الغربي للكلمة) وهي النصف الثاني من القرن التاسع عشر ورتبوها ضمن سلسلة التيارات الفنية التي عرفها الغرب في حداثته فجاءت الواقعية بين الرومانسية ( Romantisme ) والرمزية ( Symbolisme )، يرى النقاد صعوبة في تحديد محتويات الواقعية وأقر بعضهم بتعدد تعاريفها فصنفوا مالا يقل عن خمسة منها بدْء ً ا بأعمال الفنان كورباي ( Courbet ) الذي تحدى المثالية والأفكار المبتذلة التي كان يتميز بها الفن الفرنسي في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وصولا إ لى ما عرف بالواقعية الإشتراكية ثم الواقعية الروسية التي ظهرت في حدود سنة 1920 (1) . ولعل ما يجب أن نعرفه أن الواقعية في مفهومها الغربي لم تكن مقتصرة على الجانب التقني بقدر ما كانت موقفا من وضع اجتماعي كان يسيطر على الفن وبذلك أخذت الواقعية شكلا ثوريا معاد للمثالية وقد خطا في هذا الاتجاه قوستاف كورباي و أدوارد ماناي من بعده ثم تطورت إلى أشكال أخرى.
ولكن ما نعني بالواقعية عندما نتكلم عن تجربة فنية عربية وماذا عن تاريخيتها وتموقعها ضمن الحركات الفنية وعن الموقف الإسطيتيقي الذي تعبر عنه؟ هذا ما لا نجده في كتبنا وفي كتاباتنا وذلك نقص فادح يجب تلافيه بسرعة وبقدر كاف من الجدية.
أ . د. سمير التريكي
أستاذ في الفنون التشكيلية
المعهد العالي للفنون الجميلة بتونس
ـــــــــــــــــ
هوامش
(1) - أنظر: الحويجة (سامر)، فن النحت المعاصر في مصر والعراق. محمود مختار وجواد سليم مثالا . أطروحة دكتوراه في علوم وتقنيات الفنون بالمعهد العالي للفنون الجميلة بتونس بإشراف الأستاذ الحبيب بيدة، جامعة تونس، سبتمبر 2004، 329 صفحة.
(2) - انظر في هذا المجال الكتابات العديدة التي تركز على البعد الإسطيتيقي دون غيره في تحديد المنجزات الفنية المنتمية إلئ الفن المعاصر ونذكر هنا على سبيل المثال كتاب:
MILLET (Catherine), L>art contemporain , Ed. Dominos -Flammarion, Paris, 1997
وكذلك كتابين لـ :
MICHAUD (Yves), La crise de l>art contemporain , PUF, 5 ème édition, Paris, 1999 et L>art à l>état gazeux: Essai sur le triomphe de lesthétique . Ed. Stock Les essais, Paris, 2003
(3) - أنظر: كلمة réalisme في:
SOURIAU (Etienne), Vocabulaire d>esthétique , Ed. PUF, Paris, 1990, pp. 1203-1206
leila- عدد الرسائل : 81
السٌّمعَة : 6
نقاط : 59
تاريخ التسجيل : 17/10/2007
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى