منتديات الفنون
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

مرارة الزيتــون (يوميات خارج المرسم) - يحيى الشيخ

اذهب الى الأسفل

مرارة الزيتــون  (يوميات خارج المرسم) - يحيى الشيخ Empty مرارة الزيتــون (يوميات خارج المرسم) - يحيى الشيخ

مُساهمة من طرف Admin الجمعة أغسطس 22, 2008 2:19 am



مرارة الزيتــون  (يوميات خارج المرسم) - يحيى الشيخ Yahya%20shaikh

مرارة الزيتــون

(يوميات خارج المرسم)

يحيى الشيخ


كنت مرهقا من سفر طويل ، ملولا وأنا أنتظر حافلة
تقلني من سوسة الى القيروان. بجواري كان من ينتظر. التونسي يجيد
الانتظار في كل مكان؛ في المقاهي والمحطات وأبواب المؤسسات، بصبر مقدس
وموروث، انه مدمن على امتصاص الوقت والقهوة السوداء. الوقت بين يديه
كحباة المسبحة يلغيها واحدة واحدة بدون اكتراث. وصلتْ الحافلة، أخيراً،
وجنحت صوب الرصيف تثير الغبارالمتراكم ونتف الأوراق وأعقاب
السكائر..أخذت مقعدي وفتحت الستائر المثبة باحكام من طرفييها، كنت
مستسلما لوشاح الضوء العليل لبقايا شمس عند الأفق.. ..

أعرف اين تغيب !! أغمضت عيني كان الضوء يتسلل عبر
جفوني أحمرا قانيا وكأن رعافا كان يسيل في محجريهما..ما بيني وبين
الأفق كانت الفيافي ترتب مساءاً من بقايا لحظات نهار مهملة.. بصوت
متهدج، أسمع من يتمتم باسمك.... آه نسيت..!! يالغبائي، أنه الليل
الأعمى الذي تسلل يوما من خصلات شعرك الفاحم الى أعماقي وتاه هناك،
لازال يبحث عمن يأخذ بيده.



" أنا الأعمى ، خذي بيدي ".


***


قبل القيروان، من بعيد تلوح منارة المسجد الكبير. من
عليائها تلّوح للقادمين وترمي في طريقهم، حتى يصلوا أسوارها، تواريخ
يابسة مثلومة كآجر جدرانها المسطر وفقرائها المبعثرين في ازقتها
وزيتوناتها العجاف. القيروان مدينة لأهل الله، فقط، بدون منازع.
للفقراء وحدهم يفرش حائط المسجد العملاق ظلاله الشاسعة. الفقراء وحدهم
يدركون بالممارسة حنو الجدران وعطف الزوايا فيسعون اليها اينما قامت
ويحمدون الله على كل حال.... حتى لو أغناهم يوما ، سيحملون الفقير في
داخلهم الى القبر.


***


بت ليلتي الأولى في نزل " أمينة " ، كان أول ما
صادفني في الطريق الى مركز المدينة فقررت الهبوط عنده، بناء مقام على
الشارع الرئيس تحيطه أرض خلاء. اخترت أبعد غرفة عن الضوضاء. في الليل
يغدو محيطه مسرحا للكلاب تمارس نباحها وعوائها ومشاريعها الماجنة.
جمهرة منها كانت أول من احتفى بيّ ليلتها. اختلاف اصواتها عرفني على
اختلاف أعمارها ودرجات صوتها رسمت لي خارطة المكان وجغرافية علاقاتها.
أخذت أنسج فضاء الكلاب، فهدهدتني تموجاته... في طفولتي كانت مبعث
طمأنينتي وسر غفوتي.


***





وصلت أمس، السابع والعشرين من كانون الثاني، غدا
سأباشر عملي في المعهد العالي للفنون بالقيروان، واليوم هو الأحد !!
فقررت زيارة قرية " كان " التي شهدتُ ولادتها وعمرانها عام 1992. وطن
تأسس من تراب واحلام وحب اثنين؛ صلاح السماوي ونورة. في محطة الناقلات
الصغيرة حجزت مقعدا في واحدة تنتظر اكتمال العدد.. كان الطقس باردا في
الظل فاجتذبتني الشمس الى جوار رجل كان يمسك بلفة خبز مكتنزة. القيت
عليه التحية، لقد كان بانتظارها ولاريب فقد توقف عن الأكل . أطرقت
برأسي الى أسفل أتحاشى احراجه. كان ينتعل حذاءاً ممزقا متربا لم اتبين
لونه الأول، يبدو انه قد قطع أراضي شاسعة حتي وصل الى المحطة ..
انتشلني صوته من الغرق في بؤسه.


- تفضل !! وقدم لي لفته بيد مستقيمة. شكرته واعتذرت.
كرر دعوته


- تفضل باسم الله !! اعتذرت وتمنيت له شهية طيبة.
أعادها ثالثة، وإعتذرت ثالثة. يأس مني وواصل طعامه.... من أين للفقراء
كل هذه الإرادة ؟ قوتهم تتناسب عكسيا مع الفقر وتلغيه. من طريقة
التهامه لطعامه كان جائعا ومابين يديه كل ما يملك ، ربما لطيلة
النهار.. إنهم يكتسبون اليقين بالعدالة لأنهم أول ضحاياها وآخر
كسبتها...


قبل أن تتحرك الحافلة أخذ مكانه الى جواري. لم أشهد
له حركة، كان قد ضم كفيه الى ابطيه، كتّف العالم بصمت وأهمل رأسه الى
الوراء. ملتُ بعيدا عنه لأمنحه أوسع مكان وأمنح عيني مسافة لتأمل ترف
نومه .... وأنتِ !! كيف طلعت ِفي البرية كدخان المباخر "معطرة
باللبّان والمر"؛ حافية ترعي قطعان حزني ؟ من توّجك على وحدتي في غفلة
من الآلهة ؟ أقول لك الحق ! أنا مغرم برحيق القلق والجمال الأليف، لذا
أحببتك.


*****


كثرا ما نعثر في شوارع المدن على ما خلفه الناس أو
سقط منهم ؛ مسامير، قطع حديد، مشدات شعر، نقود وذهب احيانا.... لاشيئ
من هذا القبيل ولاغيره في شوارع القيروان. الفقراء هنا لا يفقدون شيئا
غير فقرهم ولا يتعففون عن التقاط أي شيئ يمكن استخدامه حتى لأغراض غير
ما صنع لها. انهم يجمعون كل ما سقط على الأرض ويتركون الأكياس والعلب
والقناني البلاستيكية الفارغة ملهاة للريح والأقدام.


أحرص على اختراق المدينة العتيقة في طريقي الى
المعهد.. تفتح الدكاكين أبوابها صباحا ويكنس أصحابها ماتجمع ليلا
أمامها .. بعصا طويلة ذات خطاف حديدي تُرفع قطع الملابس وتُعلق على
ارتفاع عالي يكفي لمرور الناس من تحتها، لتستعرض ما يعرض منها، عليك أن
تبقي رأسك مرفوعة وأن توزن خطواتك وأنت تمشي على أرض غير مستوية وغادرة
أحيانا. يتقاذف الناس التحيات، صادفني رجل على دراجته المتهالكة وهو
يحمل كأسا طافحة بالقهوة السوداء الرخيصة وهو ينثر التحية يمينا وشمالا
. بائع المقروض لا يمل من دعوة الناس الى تذوق حلوياته ويجبرهم على
تذوقها أن وقفوا عند بابه بدافع الفضول.. حتى أكثر القرويون ( أهل
القيروان ) غناً وجاه في أعماقه فقير ماكر. عشرات النساء يتجولن وعلى
رؤوسهن مناشف حمّام كبيرة بمثابة شال..ولم لا ؟؟ مادام يستر الكتفين
وملونا برسوم قطط ودلافين وفراشات وأزهار.. بعض الرجال يتعممون
بمناشف، أيضا، أصغر حجما ومن مختلف الألوان ... الفقراء يخترعون
غاياتهم. في الطريق ذاتها كانت امرأة تجمع نوى التمر من المربعات
الترابية تحت النخلات على الرصيف. لقد جمعت كيسا كبيرا وغدت المربعات
الترابية ممشطة ونظيفة... الأمر لا يسترعي انتباه الناس فالفقر نعمة
فائضة بينهم.


******

أيقظني آذان الفجر كالعادة. المدينة عن بكرة أبيها
تأذّن للصلاة ! عقلي مرهق وجسدي ثقيل، غفوت وأنا أتابع الأصوات، أختلطت
في دمدمة مدغمة وتراتيل باطنية. رأيت الله يأخذ بيدك إلى خمر نعاسي،
ويجاريك خطوة خطوة، يرفعك كما الإرجوحة بينما أهبطُ إلى القاع، ثم
اختفيتما. ماذا كنتِ تفعلين برفقته في دمي ؟


إلهي ...


ألم تقل لي:


" سلام عليك يوم ولدتْ .."


ها أنا منذ الأزل تنهشني ضواريك،


تسحلني عربات شياطينكَ في حروب المدن التي لعنتها،


دمعةً واحدةً لم تُذّرفْ من أجلي .... أنا أبنكْ !


أي ملائكة من حجر يحيطون بكْ ؟


الهي ...


سكّنْ قلبي،


ودعني أنام الى الأبــد،


ولا توقظني.



***


ثمة زرازير سوداء مخملية اللون مرقطة بأزرق مسود ذات
منقار أصفر، تحط على الحائط المقابل مع الضوء الأول، تردد صوتا واحدا
ذو موجة طويلة يشبه صوت انسان يصفر للبعيد، بعضها يصدر صوت أقصر وأعمق
ثقة. يسمي "داروين"

هذا
التلون حبا، ويقول إن لم يعني ذلك الرغبة بالحب لذهب كل تغريد الطيور
وعنائها ادراج الرياح، فهي تعيش وتعمل من أجله فقط.


في أيامي الأولي هنا صادفت عشرات منها في قفص ..
تذبح وتباع للأكل !! بجوارها كان صندوق ملطخا بالدم يعلق به زغب لم
تبارحه رائحة الأعشاش، وريش أجنحة لم يتعب من الطيران " يخبئ حفنة من
ريح "، وثمة رائحة موت تستبطن المكان. في المقابل كان جدار مقبرة
الأغالبة يجرجر ظلا ثقيلا مثلوما على التراب. ساومت الرجل صاحبها
واشتريتها حية بعشرة دنانير. لقد خدعني وكنت أعرف ! ابتعدت عنه بضعة
أمتار وفتحت لها القفص، فطارت تتخبط بحريتها، رافقها قلبي وهي تختفي...


ماذا يعني أن أكون بدون أسباب، علتي في الوجود أني
أنطوي على حب لم يفطم بعد ؟؟


أنت علتي وكل أسبابي !


ينتابني شعور بأني أشرف على الجنون حين التفت الى
الخلف. هل يكفي السير الى أمام للخلاص من ذلك ؟ أمشي يوميا وكأني أسير
الى الأبد... وكل خطوة تحيلني الى نفسي وأكتشف في نهاية المطاف أني
أسعى لك.


***


الليل يئن، يتسلل من شق في الصميم ويتشبث بي،. لا تحصى
قطعان هواجسي تنتظر في الخارج لتنهشني كما في " الجحيم ". قلبي جائع
وعاري... سأهملهم جميعا لأقرأ لك مقاطع ل " نيتشه " من قصائد شبابه
المبكر.. كما كان يقرأ البرجوازي النبيل لحبيبته بعض القصائد وهما تحت
الزيزفون أو في أيام الشتاء عند الموقد .... بالرغم من صورتي الباردة
المتهكمة هذه، كانت آنذاك، كل عاطفة تسجد أمام عظمة الشعر ونبله
وتستنجد فيه ليزكيها.


بلا موطن


1858


حملتني الخيول السريعة


بلا ارتباك، بلا وجل


نحو أبعاد فسيحة


ومن رآني عرفني


ومن عرفني سمّاني


السيد بلا موطن.


فكن جريئا، وكن قدّامي


ولاتخذلني !


أيّها النّجم البّراق ؛ ياحظّي !


***


فلا يتجرّأنّ عليّ أحد


بعد هذا فيسألني


أين موطني،


أبدا ما كنت مرتبطاً


بالأمكنة أو الساعات الهاربة


مثلما النّسر حرّ أنا


فكن جريئاً، وكن قدّامي


ولاتخذلني


ياشهر أيّار الأنيق؛ ياحظّي !


أغــانٍ


1862


كأن قلبي البحر ..شاسع


ووجهك فيه


مُبلَلاً بالشمس يبتسم


للأعماق، للوحدة العذبة


حيث في رقّة


تتحطّم الموجة فوق الموجة.


***


أهو الليل ؟


أهو النهار ؟ لا أدري!


لكنّ وجهك المبلّل بالشمس


كان يبتسم لي


عذبا وفتّانا


وإنّي سعيد مثلما طفل.


***


في الساعات الوديعة


غالبا ما أفكر بما يحزنني


وفي كثير من الإغراء يرعبني


بدون انتظار، بدون أن أعلم،


حلم جميل يتمدد فوقي.


***


لا أعلم


بما أفكر هنا وبما أحلم


ولا أعلم


كم تبقّى لي من العمر


ومع ذلك


فحين أفتتن بهذه الصّورة


قلبي ينبض برغبة ؛ لا رغبة مثلها !


ذكـــرى


1862-63


شفتاه ترتعشان وعيناه ضاحكتان،


ومع ذلك، محملا بالعتاب،


يطلع هذا الرسم المقبل من الأعماق،


من قاع ليل القلب.


انه النجم العذب على باب سمائي.


أنه يلمع، ينتصر، يزّم شفتيه بحزم،


إزاء دمعة تنهمر.

مجلة ابسو
Admin
Admin
Admin

ذكر عدد الرسائل : 821
السٌّمعَة : 22
نقاط : 144
تاريخ التسجيل : 26/07/2007

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى