مواضيع مماثلة
الجميل والنافع في الفنون العربية
صفحة 1 من اصل 1
29082007
الجميل والنافع في الفنون العربية
الجميل والنافع في الفنون العربية
د. بركات محمد مراد - المجلة الثقافية
ولد الفن من العمل ولم ينفصل عنه في يوم من الأيام، فالفن مهارة وقدرة وهبتهما الطبيعة للإنسان، فعوضته عن غبنها له في القدرات الأخرى التي تفوق فيها الحيوان عليه، وتطور الجميل من النافع ولم يتناقض معه عبر تاريخ الفن والإنسان.
فالعمل حتى في أكثر عصور ما قبل التاريخ بدائية، عندما كان النشاط العملي موجهاً إلى الوفاء بالحاجات الضرورية المباشرة للحياة، نوعاً من الإبداع، فلقد كان الإنسان يرى بصورة غامضة في ما يصنعه لوناً من السيطرة على مادته ولونا من الشعور المبهم بتحقيق الذات عن طريق أولي للخلق والإبداع والتشكيل.
غير أن هذا كان شعوراً مبكراً بفرحة «الصنع» والقدرة على التحويل، لكن هذا الشعور الخلاق لم يتجسد في أعمال فنية مستقلة، إنما بدأ الفن في وجوده المتميز عندما صار العمل «إنسانياً» أي عندما صار خاضعاً لأهداف إنسانية واعية. فهنا تحول تاريخ الإنسان من أن يكون «تاريخاً بيولوجيا» إلى أن يكون «تاريخاً اجتماعياً» متبدياً في أشكال ثقافية من بينها الفن.
كذلك فإن العمل قد صاحبته المعاناة الجمالية، وتطور معه الشعوري الجمالي لدى البشر، وهو الذي طوره وأغناه، ولكن هذا الشعور كان بسيطاً بدائياً، عندما كان العمل متوجهاً فحسب إلى إرضاء الحاجات المعيشية والبيولوجية القريبة. فلما تطور العمل إلى صورته الإنسانية الواعية الهادفة ونشأت معه حاجات إنسانية جديدة تحول ذلك الشعور الجمالي البدائي إلى «متعة روحية».
وارتباط المتعة الروحية بالحاجة الإنسانية يجعل الجميل يتضمن بالضرورة النافع ولا يتناقض معه، إذ يرى الإنسان هنا، أن ما صنعه يحقق نفعاً مباشراً ويلبي حاجة عملية قائمة، كما يرى فيه في نفس الوقت قدرته على الخلق وطاقته على الإبداع.
وعلى هذا فهم القدماء الفن، إذ لم تكن الفنون الجميلة عندهم منفصلة عن الفنون النافعة المفيدة، بل يفهم الفن كذلك اليوم، إذ أصبح يتضمن معاني الصنعة والمهارة، وقديماً ذكر أفلاطون أسطورة «برومثيوس» التي روى فيها أن آلهة اليونان عندما شرعت في توزيع الهبات على المخلوقات زودت جنس الحيوان بأسلحة تحميه من قسوة الطبيعة، أما الإنسان فقد بقي أعزل إلى أن رقّ له قلب الإله «برومثيوس» صديق البشر، فأقدم على مغامرة جريئة، سرق من الآلهة قبساً من النار وأهداه الإنسان فعلمه الفنون.
لكن هذا لا يعني أن الجمال الموجود في الطبيعة هو إحساس للفنان ذاتي، فالخصائص الجمالية في الطبيعة تتبدى وجوداً حقاً، أي وجوداً مستقلاً عن إدراك البشر لها ووعيهم بها. إن هذه الخصائص ليست صناعة بشرية، كما أنها ليست رغبات ذاتية، إنما يعي البشر منها بقدر تطورهم التكتيكي والعلمي والفكري والروحي والجمالي.
كذلك فإن الجمال في المجتمع موضوعي، غير أنه ليس مصنوعاً جاهزاً للبشر، وإنما هو من صنعهم ومن خلقهم، يتبدى في حياتهم الروحية والفنية والنفسية والاجتماعية والأخلاقية وهو ثمرة لمستوى تطورهم الفكري ولعلاقاتهم الاجتماعية، والعلاقة بين الجمال في الطبيعة والجمال في المجتمع لا تقل موضوعية عن موضوعية كل منهما.
وأساس هذه العلاقة أن الجمال في الطبيعة كان قائماً قبل بروز الإنسان العاقل ونضج حساسيته الجمالية لكن هذا البروز كان-في آن واحد- انتقالة مهمّة في تطور الجمال في الطبيعة وبداية لنشأة الجمال في المجتمع.
بدأ البشر يتعرفون إلى الجمال في الطبيعة، وبدأوا –في الوقت ذاته- يبدعون مادياً وروحياً جمالاً على نهج قوانينها وعلى حسب تطورهم الفكري والاجتماعي، هنا أصبح التعرف الجمالي يتصل بعناصر جمالية مادية وروحية، كذلك، فإنه لم يكن عملية بيولوجية وإنما كان عملية اجتماعية تنهض على وعي البشر وحواسهم المدركة والذائقة. لقد أصبح (الواقع) ثرياً بعناصره الجمالية، وأصبح يبدي من هذه العناصر بقدر تقدم البشر في علاقاتهم بالطبيعة وفي علاقاتهم الاجتماعية.
ودراسة الفن في المجتمعات البدائية تبيّن لنا ارتباط الفنون الجميلة بالعمل اليومي والنشاط الجماعي عند الإنسان منذ أقدم العصور. ففنون الغناء والرقص قد تطورت من الأعمال الجماعية ومن الطقوس الدينية. فكان فن النحت مرتبطاً بالعمارة. وكانت التماثيل في بادئ الأمر مكملة لأعمدة المباني كما تشاهد في آثار قدماء المصريين اليوم.
ويكاد يجمع أكثر الفلاسفة القدماء على تأكيد الصلة بين الفنون الجميلة والفنون النافعة. فسقراط شيخ الفلاسفة ومعلم اليونان، الذي عاصر أزهى عصور الفن اليوناني الكلاسيكي ، لم يكن يفرق بين الفنون الجميلة والفنون المفيدة، فالفنون على أنواعها كافة ينبغي في رأيه أن تحقق للإنسان نفعاً ما أو خيراً معيناً. وسيرة سقراط تفسر لنا هذا الرأي، فكثيراً ما وصف الشعراء بأنهم لا يعقلون ما يقولون، وكثيراً ما لام المثاليين والرسامين على أنهم يكتفون بتحقيق الجمال الظاهري ولا يتعمقون عند التعبير عن الجمال الباطني وتوضيح معالم الخير.
ولذلك أخضع سقراط مفهوم الجمال لمبدأ الغائية، وبات الشيء الجميل عنده ما كان له فائدة للإنسان والرائع في الفن ما كان نافعاً، وإن موقع حسن الشيء من الروعة ما تناسب غاياته النفع الذي يصيب الإنسان، على حين أن القبيح والرديء هما ما لا جدوى منهما ولا نفع.
ففي حديثه مع تلميذه «أرستيب» يرى سقراط أن كل شيء ذا فائدة هو رائع جميل «فالسلة التي نحمل فيها الأشياء رائعة، والدرع والترس، رغم ما فيهما من تناسب أجزاء في جمال الصنع، هما قبيحان، إذ كانت الغاية منهما ضرر الإنسان».
وأكد أفلاطون هذا الرأي الذي كان يفهم الفن على أنه وسيلة من وسائل رقي الحياة الاجتماعية رأى فيه تهذيب النفس البشرية، والجمال عنده مرتبط كل الارتباط بمعاني الخير. ولم يحدث أن استقل الفن يوماً من الأيام عن هذه الوظيفة التي تجعله في خدمة الحياة الاجتماعية والارتقاء بالطبيعة الإنسانية. ولكن ظهرت نظريات في الفلسفة والنقد تغلب الأثر السيكولوجي للفن على الوظيفة الاجتماعية. وكان وراء نشأة هذه النظريات الجديدة للفن تطورات لم يشهدها تاريخ الفن في أقدم العصور.
فمنذ أقدم العصور- كما تذهب إلى ذلك الدكتورة أميرة مطر- وحين كان الفن مرتبطاً بخدمة المجتمع والدين سادت النظرية الاجتماعية، إذ لم يكن هدف الفنان متجهاً إلى التأثير في شعور الفرد، وإنما كان هدفه الأول التأثير في الجماعة لتحقيق أهدافها وتأكيد مثلها العليا.
أما النظرية السيكولوجية فلم تتبلور إلا بعد أن بدأ الفنان يخاطب الفرد، أي بعد أن أصبح للفرد مكانة في المجتمع وبعد أن أصبح الفنان بدوره حراً في التعبير عن مشاعره الذاتية وأفكاره الخاصة.
ولم يكن هذا التطور ليتم في تاريخ الفن إلا بعد أن تهيأت ظروف الحضارة وتطور المجتمع البشري فعرف الفنان تخصصه واستقل به، وكان المجتمع اليوناني في القرن الخامس ق.م أسبق المجتمعات وأسرعها نحو النضج الفكري. فوعى الفلاسفة هذه الثورة الجديدة في تاريخ الفن وأعلن طائفة منهم أن ليس للفن من غاية أبعد من إحداث البهجة والسرور في نفس الإنسان. وبمعنى آخر أصبح الجمال أوضح في الصورة الفنية التي تخاطب الإحساس المباشر في الفرد وتتجلى فيها مقدرة الفنان وبراعته. وكذلك أصبح للفنان مجاله الخاص ولم يعد يستهدف من عمله الفني إلا أن يثير في السامع أو الناظر البهجة الخالصة.
وهذه النظرة التي تفصل بين الجميل والنافع نجدها تسود في الاتجاهات الفنية الحديثة، فبينما ارتبط مفهوم المنفعة والغائية بالجمال عند اليونان قديماً، نجد اليوم موقف علم الجمال من هذه الأمور موقفاً يختلف تماماً، ويرفض الأخذ بمثل هذه المبادئ، إذ الشيء الجميل ليس بالضرورة نافعاً كما يريد سقراط، بل قد تتعارض الظاهرة الجمالية مع الخير الذي تعارف عليه الناس، على نحو ما نراه عند اتباع مدرسة الفن للفن، فلا يجوز أن نصف الأثر بالقبح إذا تعارض مع مفهوم الخير والنفع الماديين.
فالعنف في الموسيقى الحديثة إذا أثار توتراً في الأعصاب، واللون القاتم إذا خلق انطباعاً حالكاً، لا يمكن أن ننعتهما –في نظر هؤلاء الناس- بالقبح، كما أن الخلط بين النافع والجميل لا يجوز في هذا المقام، فليس النافع جميلاً دائماً، كما أن الجميل ليس بالضرورة نافعاً، فكم من أعشاب وأزهار برية، رغم ما بها من ضرر، بل قد تكون سامة ومميتة للإنسان والحيوان، فهي على الرغم من ذلك جميلة رائعة، والحية الرقطاء ذات الجلد المبقع الجميل هي خطرة ومميتة.
وتبعاً لذلك فإن أصحاب هذه النزعة من المحدثين يرون أنه لا يمكن أن يتولد الفن إلا حين تدع هموم الحياة ومطالب المعيشة متسعاً من الوقت لظهور «الحلم» وللتفكير في شيء آخر غير ضرورات الحياة المادية النفعية.
ومعنى هذا أن الفن نشاط، يجعل للمتعة الفنية صبغة «النزاهة الخالصة» التي لا تشوبها شائبة من أغراض أو نفعية أو مصلحة. وربما كان هذا أيضاً هو المعنى الذي قصد إليه المفكر الألماني «لانج» Lange حينما عرف الفن بقوله: «إنه مقدرة الإنسان على إمداد نفسه وغيره بلذة قائمة على الوهم illusion دون أن يكون له أي غرض شعوري يرمي إليه سوى المتعة المباشرة».
أو كما يقول الفيلسوف الإنجليزي سلي Sully: «إن الفن هو إنتاج موضوع له صفة البقاء أو إحداث فعل عابر سريع الزوال، يكون من شأنه توليد لذة إيجابية لدى صاحبه من جهة، وإثارة انطباعات ملائمة لدى عدد معين من النظارة المستمعين من جهة أخرى، بغض النظر عن أي اعتبار آخر قد يقوم على المنفعة العملية أو الفائدة الشخصية».
ولكننا أيضاً لا نعدم أن نجد بين المحدثين في علم الجمال من يقول بأن الوظائف النفعية للعمل الفني لا تكاد تنفصل عن وظائفه الاستيطيقية، وأنه قد يكون ثمة (جمال) في المنفعة الخالصة أو التكيف المحض الذي بمقتضاه يحقق الشيء غايته تحقيقاً كاملاً، دون أي إسراف أو مبالغة أو إغراق.
وهذا ما سيقرره –على وجه الخصوص- عالم الجمال الفرنسي المشهور «اتين سوريو» حيث يقول إنه ليس في وسعنا أن نعد «الجمال» خاصة مميزة للعمل الفني، كما أنه ليس في وسعنا أن نقصر وظيفة الفن على إنتاج الجمال».
ولكن الغلبة في العصر الحديث كانت لأصحاب الاتجاه الذي يؤمن بأن الأثر الفني –أياً كان نوعه- إنما يصدر عن تجربة خيالية أو حدسية تلتمس لذاتها ولا تهدف لغاية من ورائها، اللهم إلا ما في التجربة ذاتها من جمال أو لذة أو جدة، وعلى حد قول «وولتر باتر: « ليست الغاية في الأثر الفني هي ممارسة التجربة، بل التجربة ذاتها» وتجلى هذا في مدرسة الفن للفن.
وواضح أن أصحاب هذه النظرية لا يعنون في التجربة الشعرية أو الأدبية أو الفنية إلا بقيمتها الجمالية والفنية وحدهما، والفن عند هؤلاء ليس وسيلة للتعبير عن المشاعر الخاصة بقدر ما هو وسيلة لخلق صور وأخيلة وإحساسات تبعث على اللذة وتنشر الجمال للجمال وحده.
أما ما في العمل الفني من نشاط آخر عقلي أو اجتماعي، أو فلسفي أو أخلاقي، فليس له قيمة في ذاته، وفي هذه الحالة لا تتوقف قيمة العمل على ما فيه من خير خلقي أو اجتماعي أو فلسفي، ولا يتوقف معيار صدقة على أي شيء يقع خارج العمل الفني نفسه.
وواضح أن أصحاب هذه النظرة لمفهوم الأثر الفني وطبيعته ووظيفته قد تورطوا في خطأ جوهري ، فهم بهذا الاتجاه إنما يعزلون مادة الفن عن صورته ولا يلقون بالاً لكل ما يتضمنه الفن من أمور تتعلق بالمجتمع والأخلاق وسائر مقومات الحياة الفكرية العميقة، وما يتصل بالحياة الإنسانية من مشكلات هي في الحقيقة من صميم تفكير الفنان، وإذا زعمنا أن ليس في دولة الفن إلا عبادة الجمال، وأن الجمال وحده هو غاية الغايات في دولة مستقلة ذات سيادة، فقد منعنا الفن من ممارسة الحياة، بل قد جعلنا الحياة شيئاً ساذجاً لا يستحق أن يعاش.
د. بركات محمد مراد - المجلة الثقافية
ولد الفن من العمل ولم ينفصل عنه في يوم من الأيام، فالفن مهارة وقدرة وهبتهما الطبيعة للإنسان، فعوضته عن غبنها له في القدرات الأخرى التي تفوق فيها الحيوان عليه، وتطور الجميل من النافع ولم يتناقض معه عبر تاريخ الفن والإنسان.
فالعمل حتى في أكثر عصور ما قبل التاريخ بدائية، عندما كان النشاط العملي موجهاً إلى الوفاء بالحاجات الضرورية المباشرة للحياة، نوعاً من الإبداع، فلقد كان الإنسان يرى بصورة غامضة في ما يصنعه لوناً من السيطرة على مادته ولونا من الشعور المبهم بتحقيق الذات عن طريق أولي للخلق والإبداع والتشكيل.
غير أن هذا كان شعوراً مبكراً بفرحة «الصنع» والقدرة على التحويل، لكن هذا الشعور الخلاق لم يتجسد في أعمال فنية مستقلة، إنما بدأ الفن في وجوده المتميز عندما صار العمل «إنسانياً» أي عندما صار خاضعاً لأهداف إنسانية واعية. فهنا تحول تاريخ الإنسان من أن يكون «تاريخاً بيولوجيا» إلى أن يكون «تاريخاً اجتماعياً» متبدياً في أشكال ثقافية من بينها الفن.
كذلك فإن العمل قد صاحبته المعاناة الجمالية، وتطور معه الشعوري الجمالي لدى البشر، وهو الذي طوره وأغناه، ولكن هذا الشعور كان بسيطاً بدائياً، عندما كان العمل متوجهاً فحسب إلى إرضاء الحاجات المعيشية والبيولوجية القريبة. فلما تطور العمل إلى صورته الإنسانية الواعية الهادفة ونشأت معه حاجات إنسانية جديدة تحول ذلك الشعور الجمالي البدائي إلى «متعة روحية».
وارتباط المتعة الروحية بالحاجة الإنسانية يجعل الجميل يتضمن بالضرورة النافع ولا يتناقض معه، إذ يرى الإنسان هنا، أن ما صنعه يحقق نفعاً مباشراً ويلبي حاجة عملية قائمة، كما يرى فيه في نفس الوقت قدرته على الخلق وطاقته على الإبداع.
وعلى هذا فهم القدماء الفن، إذ لم تكن الفنون الجميلة عندهم منفصلة عن الفنون النافعة المفيدة، بل يفهم الفن كذلك اليوم، إذ أصبح يتضمن معاني الصنعة والمهارة، وقديماً ذكر أفلاطون أسطورة «برومثيوس» التي روى فيها أن آلهة اليونان عندما شرعت في توزيع الهبات على المخلوقات زودت جنس الحيوان بأسلحة تحميه من قسوة الطبيعة، أما الإنسان فقد بقي أعزل إلى أن رقّ له قلب الإله «برومثيوس» صديق البشر، فأقدم على مغامرة جريئة، سرق من الآلهة قبساً من النار وأهداه الإنسان فعلمه الفنون.
لكن هذا لا يعني أن الجمال الموجود في الطبيعة هو إحساس للفنان ذاتي، فالخصائص الجمالية في الطبيعة تتبدى وجوداً حقاً، أي وجوداً مستقلاً عن إدراك البشر لها ووعيهم بها. إن هذه الخصائص ليست صناعة بشرية، كما أنها ليست رغبات ذاتية، إنما يعي البشر منها بقدر تطورهم التكتيكي والعلمي والفكري والروحي والجمالي.
كذلك فإن الجمال في المجتمع موضوعي، غير أنه ليس مصنوعاً جاهزاً للبشر، وإنما هو من صنعهم ومن خلقهم، يتبدى في حياتهم الروحية والفنية والنفسية والاجتماعية والأخلاقية وهو ثمرة لمستوى تطورهم الفكري ولعلاقاتهم الاجتماعية، والعلاقة بين الجمال في الطبيعة والجمال في المجتمع لا تقل موضوعية عن موضوعية كل منهما.
وأساس هذه العلاقة أن الجمال في الطبيعة كان قائماً قبل بروز الإنسان العاقل ونضج حساسيته الجمالية لكن هذا البروز كان-في آن واحد- انتقالة مهمّة في تطور الجمال في الطبيعة وبداية لنشأة الجمال في المجتمع.
بدأ البشر يتعرفون إلى الجمال في الطبيعة، وبدأوا –في الوقت ذاته- يبدعون مادياً وروحياً جمالاً على نهج قوانينها وعلى حسب تطورهم الفكري والاجتماعي، هنا أصبح التعرف الجمالي يتصل بعناصر جمالية مادية وروحية، كذلك، فإنه لم يكن عملية بيولوجية وإنما كان عملية اجتماعية تنهض على وعي البشر وحواسهم المدركة والذائقة. لقد أصبح (الواقع) ثرياً بعناصره الجمالية، وأصبح يبدي من هذه العناصر بقدر تقدم البشر في علاقاتهم بالطبيعة وفي علاقاتهم الاجتماعية.
ودراسة الفن في المجتمعات البدائية تبيّن لنا ارتباط الفنون الجميلة بالعمل اليومي والنشاط الجماعي عند الإنسان منذ أقدم العصور. ففنون الغناء والرقص قد تطورت من الأعمال الجماعية ومن الطقوس الدينية. فكان فن النحت مرتبطاً بالعمارة. وكانت التماثيل في بادئ الأمر مكملة لأعمدة المباني كما تشاهد في آثار قدماء المصريين اليوم.
ويكاد يجمع أكثر الفلاسفة القدماء على تأكيد الصلة بين الفنون الجميلة والفنون النافعة. فسقراط شيخ الفلاسفة ومعلم اليونان، الذي عاصر أزهى عصور الفن اليوناني الكلاسيكي ، لم يكن يفرق بين الفنون الجميلة والفنون المفيدة، فالفنون على أنواعها كافة ينبغي في رأيه أن تحقق للإنسان نفعاً ما أو خيراً معيناً. وسيرة سقراط تفسر لنا هذا الرأي، فكثيراً ما وصف الشعراء بأنهم لا يعقلون ما يقولون، وكثيراً ما لام المثاليين والرسامين على أنهم يكتفون بتحقيق الجمال الظاهري ولا يتعمقون عند التعبير عن الجمال الباطني وتوضيح معالم الخير.
ولذلك أخضع سقراط مفهوم الجمال لمبدأ الغائية، وبات الشيء الجميل عنده ما كان له فائدة للإنسان والرائع في الفن ما كان نافعاً، وإن موقع حسن الشيء من الروعة ما تناسب غاياته النفع الذي يصيب الإنسان، على حين أن القبيح والرديء هما ما لا جدوى منهما ولا نفع.
ففي حديثه مع تلميذه «أرستيب» يرى سقراط أن كل شيء ذا فائدة هو رائع جميل «فالسلة التي نحمل فيها الأشياء رائعة، والدرع والترس، رغم ما فيهما من تناسب أجزاء في جمال الصنع، هما قبيحان، إذ كانت الغاية منهما ضرر الإنسان».
وأكد أفلاطون هذا الرأي الذي كان يفهم الفن على أنه وسيلة من وسائل رقي الحياة الاجتماعية رأى فيه تهذيب النفس البشرية، والجمال عنده مرتبط كل الارتباط بمعاني الخير. ولم يحدث أن استقل الفن يوماً من الأيام عن هذه الوظيفة التي تجعله في خدمة الحياة الاجتماعية والارتقاء بالطبيعة الإنسانية. ولكن ظهرت نظريات في الفلسفة والنقد تغلب الأثر السيكولوجي للفن على الوظيفة الاجتماعية. وكان وراء نشأة هذه النظريات الجديدة للفن تطورات لم يشهدها تاريخ الفن في أقدم العصور.
فمنذ أقدم العصور- كما تذهب إلى ذلك الدكتورة أميرة مطر- وحين كان الفن مرتبطاً بخدمة المجتمع والدين سادت النظرية الاجتماعية، إذ لم يكن هدف الفنان متجهاً إلى التأثير في شعور الفرد، وإنما كان هدفه الأول التأثير في الجماعة لتحقيق أهدافها وتأكيد مثلها العليا.
أما النظرية السيكولوجية فلم تتبلور إلا بعد أن بدأ الفنان يخاطب الفرد، أي بعد أن أصبح للفرد مكانة في المجتمع وبعد أن أصبح الفنان بدوره حراً في التعبير عن مشاعره الذاتية وأفكاره الخاصة.
ولم يكن هذا التطور ليتم في تاريخ الفن إلا بعد أن تهيأت ظروف الحضارة وتطور المجتمع البشري فعرف الفنان تخصصه واستقل به، وكان المجتمع اليوناني في القرن الخامس ق.م أسبق المجتمعات وأسرعها نحو النضج الفكري. فوعى الفلاسفة هذه الثورة الجديدة في تاريخ الفن وأعلن طائفة منهم أن ليس للفن من غاية أبعد من إحداث البهجة والسرور في نفس الإنسان. وبمعنى آخر أصبح الجمال أوضح في الصورة الفنية التي تخاطب الإحساس المباشر في الفرد وتتجلى فيها مقدرة الفنان وبراعته. وكذلك أصبح للفنان مجاله الخاص ولم يعد يستهدف من عمله الفني إلا أن يثير في السامع أو الناظر البهجة الخالصة.
وهذه النظرة التي تفصل بين الجميل والنافع نجدها تسود في الاتجاهات الفنية الحديثة، فبينما ارتبط مفهوم المنفعة والغائية بالجمال عند اليونان قديماً، نجد اليوم موقف علم الجمال من هذه الأمور موقفاً يختلف تماماً، ويرفض الأخذ بمثل هذه المبادئ، إذ الشيء الجميل ليس بالضرورة نافعاً كما يريد سقراط، بل قد تتعارض الظاهرة الجمالية مع الخير الذي تعارف عليه الناس، على نحو ما نراه عند اتباع مدرسة الفن للفن، فلا يجوز أن نصف الأثر بالقبح إذا تعارض مع مفهوم الخير والنفع الماديين.
فالعنف في الموسيقى الحديثة إذا أثار توتراً في الأعصاب، واللون القاتم إذا خلق انطباعاً حالكاً، لا يمكن أن ننعتهما –في نظر هؤلاء الناس- بالقبح، كما أن الخلط بين النافع والجميل لا يجوز في هذا المقام، فليس النافع جميلاً دائماً، كما أن الجميل ليس بالضرورة نافعاً، فكم من أعشاب وأزهار برية، رغم ما بها من ضرر، بل قد تكون سامة ومميتة للإنسان والحيوان، فهي على الرغم من ذلك جميلة رائعة، والحية الرقطاء ذات الجلد المبقع الجميل هي خطرة ومميتة.
وتبعاً لذلك فإن أصحاب هذه النزعة من المحدثين يرون أنه لا يمكن أن يتولد الفن إلا حين تدع هموم الحياة ومطالب المعيشة متسعاً من الوقت لظهور «الحلم» وللتفكير في شيء آخر غير ضرورات الحياة المادية النفعية.
ومعنى هذا أن الفن نشاط، يجعل للمتعة الفنية صبغة «النزاهة الخالصة» التي لا تشوبها شائبة من أغراض أو نفعية أو مصلحة. وربما كان هذا أيضاً هو المعنى الذي قصد إليه المفكر الألماني «لانج» Lange حينما عرف الفن بقوله: «إنه مقدرة الإنسان على إمداد نفسه وغيره بلذة قائمة على الوهم illusion دون أن يكون له أي غرض شعوري يرمي إليه سوى المتعة المباشرة».
أو كما يقول الفيلسوف الإنجليزي سلي Sully: «إن الفن هو إنتاج موضوع له صفة البقاء أو إحداث فعل عابر سريع الزوال، يكون من شأنه توليد لذة إيجابية لدى صاحبه من جهة، وإثارة انطباعات ملائمة لدى عدد معين من النظارة المستمعين من جهة أخرى، بغض النظر عن أي اعتبار آخر قد يقوم على المنفعة العملية أو الفائدة الشخصية».
ولكننا أيضاً لا نعدم أن نجد بين المحدثين في علم الجمال من يقول بأن الوظائف النفعية للعمل الفني لا تكاد تنفصل عن وظائفه الاستيطيقية، وأنه قد يكون ثمة (جمال) في المنفعة الخالصة أو التكيف المحض الذي بمقتضاه يحقق الشيء غايته تحقيقاً كاملاً، دون أي إسراف أو مبالغة أو إغراق.
وهذا ما سيقرره –على وجه الخصوص- عالم الجمال الفرنسي المشهور «اتين سوريو» حيث يقول إنه ليس في وسعنا أن نعد «الجمال» خاصة مميزة للعمل الفني، كما أنه ليس في وسعنا أن نقصر وظيفة الفن على إنتاج الجمال».
ولكن الغلبة في العصر الحديث كانت لأصحاب الاتجاه الذي يؤمن بأن الأثر الفني –أياً كان نوعه- إنما يصدر عن تجربة خيالية أو حدسية تلتمس لذاتها ولا تهدف لغاية من ورائها، اللهم إلا ما في التجربة ذاتها من جمال أو لذة أو جدة، وعلى حد قول «وولتر باتر: « ليست الغاية في الأثر الفني هي ممارسة التجربة، بل التجربة ذاتها» وتجلى هذا في مدرسة الفن للفن.
وواضح أن أصحاب هذه النظرية لا يعنون في التجربة الشعرية أو الأدبية أو الفنية إلا بقيمتها الجمالية والفنية وحدهما، والفن عند هؤلاء ليس وسيلة للتعبير عن المشاعر الخاصة بقدر ما هو وسيلة لخلق صور وأخيلة وإحساسات تبعث على اللذة وتنشر الجمال للجمال وحده.
أما ما في العمل الفني من نشاط آخر عقلي أو اجتماعي، أو فلسفي أو أخلاقي، فليس له قيمة في ذاته، وفي هذه الحالة لا تتوقف قيمة العمل على ما فيه من خير خلقي أو اجتماعي أو فلسفي، ولا يتوقف معيار صدقة على أي شيء يقع خارج العمل الفني نفسه.
وواضح أن أصحاب هذه النظرة لمفهوم الأثر الفني وطبيعته ووظيفته قد تورطوا في خطأ جوهري ، فهم بهذا الاتجاه إنما يعزلون مادة الفن عن صورته ولا يلقون بالاً لكل ما يتضمنه الفن من أمور تتعلق بالمجتمع والأخلاق وسائر مقومات الحياة الفكرية العميقة، وما يتصل بالحياة الإنسانية من مشكلات هي في الحقيقة من صميم تفكير الفنان، وإذا زعمنا أن ليس في دولة الفن إلا عبادة الجمال، وأن الجمال وحده هو غاية الغايات في دولة مستقلة ذات سيادة، فقد منعنا الفن من ممارسة الحياة، بل قد جعلنا الحياة شيئاً ساذجاً لا يستحق أن يعاش.
Admin- Admin
- عدد الرسائل : 821
السٌّمعَة : 22
نقاط : 144
تاريخ التسجيل : 26/07/2007
الجميل والنافع في الفنون العربية :: تعاليق
رد: الجميل والنافع في الفنون العربية
ولكن هذه الأحادية في النظر التي ينقسم فيها الفكر الغربي في رؤيته للفن وتجسيده للجمال غير موجودة في النشاط الفني الإسلامي، بل هي ليست موضع تساؤل، وليست مثار استفهام، حيث نجد دائماً توحداً كاملاً بين الجميل والنافع في الفن الإسلامي، وتمثل هذا واضحاً وجلياً في كل مجالات هذا الفن بدءاً من العمارة، كما تمثلت في المساجد والقصور والبنايات الإسلامية، وانتهاء بفن الأرابسك الذي هو فن إسلامي عربي خالص، ومروراً بالشعر والموسيقى والخط.
ومرجع هذا شمولية الرؤية الإسلامية للحياة، التي تنطبق على أبسط صورها كما تتمثل في الحياة اليومية للإنسان المسلم، وتستغرق أرقى وأعقد نشاطاتها في كل صور الإبداع والتكوين التي تنتج من بناء المسلم لحضارته وثقافته.
فالثياب «للمنفعة المادية» وللتجمل كذلك.. وقد قال رسول الله_- لعمر بن الخطاب وقد رآه لبس ثوباً جديداً: « البس جديداً، وعش حميداً، ومت شهيداً، ويرزقك الله قرة عين في الدنيا والآخرة ».
ولقد ميز الإسلام ما بين طلب الجمال، والاستمتاع به، عندما يحكمه الاقتصاد والاعتدال، وعندما يكون شكراً لأنعم واهب الجمال، وبين «الكبر» الذي نهى عنه الإسلام، وتوعد مقترفيه. فعندما قال رسول الله_-في الحديث الذي يرويه ابن مسعود:«لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، ولا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة من كبر» عند ذلك قال رجل: «يا رسول الله، إني ليعجبني أن يكون ثوبي غسيلاً، ورأسي دهيناً، وشراك نعلي جديداً –وذكر أشياء حتى ذكر علاقة سوطه- أفمن الكبر ذلك يا رسول الله؟ فقال رسول الله_: «لا! ذلك الجمال، إنّ الله جميل يحب الجمال. ولكن الكبر من سفه الحق وازدرى الناس»!.
وأيضاً فليس هذا الجمال هو «البغي» الذي نهى عنه الإسلام، ولقد سأل الصحابي مالك بن مرة الرهاوي، رسول الله_- فقال: يا رسول الله، قد قسم لي من الجمال ما ترى، فما أحب أحداً من الناس فضلني بشراكين فما فوقهما! أفليس ذلك هو البغي؟ فقال-_: «لا! ليس ذلك هو البغي، ولكن البغي من بطر- أو قال: سفه الحق وغمط الناس»14. فالحرص على التجمّل إلى حد التنافس في الاتصاف بصفاته والجمع لمؤهلاته، ليس من البغي الذي ينهى عنه الإسلام.
وليس «المنفعة المادية» فقط هي غاية خلق الدنيا وتسخيرها للإنسان، إن الجمال والزينة كذلك منفعة محققة ولازمة، أيضاً للإنسان، والبحار التي سخرها خالقها للإنسان لا تقف منافعها عند المنافع المادية –اللحم الطري، وسبل الاتصال- وإنما ابتغاء الحية والزينة والجمال أيضاً من منافعها «وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله لعلكم تشكرون».
وعندما يشير الله سبحانه إلى بعض من نعمه وآياته، نرى قرآنه الكريم يلفت النظر إلى ما أنزل من السماء من ماء تمتلئ به الأودية فيحيي الأرض ويزينها للناظرين، وإلى ما يستخرجه الإنسان بالنار من حلي الزينة والجمال، المستخرجة من معادن الأرض. ففي الزرع: طعام، وزينة، وفي الذهب والفضة: نقد وحلية وجمال يتجمل به الإنسان «أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله، كذلك يضرب الله الحق والباطل، فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، كذلك يضرب الله الأمثال».
إن هذا الجمال وتلك الزينة، هي آيات الله، أبدعها وبثها في هذا الكون، وأمر الإنسان أن ينظر فيها، إذن فالنظر في الجمال والاستقبال لآيات الزينة، وفتح قنوات الإحساس الإنساني على صنع الله هذا، هو امتثال لأمر الله سبحانه وتعالى «انظروا إلى ثمره وينعه« أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها».
هذا النظر في هذه الآيات، هو سبيل من سبل الاستدلال على وجود الله، وعلى كمال قدرته وبديع صنعته، وما تعطيل النظر في آيات الجمال هذه باصطناع الخصومة بين الإسلام وبين جماليات الحياة إلا تعطيل للدليل على وجود الصانع المبدع بهذه الآيات!
ولذلك يؤكد الباحث الدكتور محمد عمارة أنه يستوي هذا التعطيل للنظر –بقمع أدواته وسد قنواته وإهمال ملكاته- النظر المجرد من الإحساس بآيات الجمال المودعة في هذه المخلوقات! فالذين لا يرون في المحيط الذي يعيشون فيه غير «المنافع المادية» ولا ترى بصائرهم آيات الجمال في هذا المحيط، لا شك أنهم معنيون وموصوفون بقول الله سبحانه: « لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون».
كذلك فإن تنمية الإحساس الجمالي لدى الإنسان المؤمن هو تنمية للملكات والطاقات التي أنعم بها عليه الله، وفي ذلك الشكر لله الذي أنعم بها. وإن في استخدام هذه الملكات سبلاً للاستمتاع بما خلق الله في هذا الكون من آيات الزينة والجمال والشكر لله على نعمة خلقه لهذه الزينة ولهذا الجمال.
ولكن هذا لا ينسينا الضوابط التي وضعها الإسلام للاستمتاع بالحياة وجمالها، ولقد كان رسول الله_- يرى أن الدنيا جميلة حلوة وأن جمالها لا يتم بغير العمل وفق شريعة التوحيد فقال عليه السلام: «إن الدنيا حلوة خضرة وأن الله استعملكم عليها فناظر كيف تعملون».
من أجل هذا حذر -_- المسلمين من أن يسلموا عقولهم ونفوسهم لحلاوة الدنيا وزخارفها... لقد حذر -_- جمالها بغير أن يشوه هذا الجمال فقال: «أخوف ما أخاف عليكم مما يخرج لكم من زهرة الدنيا قالوا: وما زهرة الدنيا؟ قال: بركات الأرض». وقال: «فوالله ما أخشى عليكم الفقر وإنما أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم».
ومن هنا ، فإن الزهد الذي جاء به القرآن مما لا يشوه وجه الحياة الجميل النبيل، فيه تضبط الأهواء بغير إرهاب أو إعنات يهيض النفس ويستذلها، فهو ضابط به تحكم الطاقات في حركتها فلا تندفع اندفاعاً أهوج محطماً النفس والمجتمع. والعقيدة في الأساس هي معيار به تقاس سرعة الطاقات وتقاس به درجة الأعمال ومدى أصالتها وصلاحيتها للنهوض بالإنسان المسلم وبالمجتمع والأمة «وابتغ في ما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين».
وحين قال الله تعالى ، وهو أصدق القائلين: «والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون. ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون. وتحمل أنعامكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، إن ربكم لرؤوف رحيم. والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة، ويخلق ما لا تعلمون».
فإننا نجد كلمة «زينة» تكشف مدى العلاقة الوثيقة بين وحدة النفع والجمال، أيا كانت درجة الجمال، أو درجة النفع في الشيء، وقبل كلمة «زينة» كانت كلمة «جمال» بصريح لفظها في آية مستقلة «ولكم فيها جمال» وكان تقديم الخيل على البغال، والبغال على الحمير تأكيداً لما نقول وتمهيداً لما فهمنا، وفي بعض الحديث: «اطلبوا الحوائج عند حسان الوجوه» وعلى هذا إذا أمكن للفنان أن يضيف وحدة النفع ولم يفعل فقد قصر أو قعد.
ومن هنا وجدنا أنه لا تعارض بين الجميل والنافع في كل الفنون والآداب الإسلامية. ولا يستطيع أحد أن ينكر أن الأدب كان عنصراً من عناصر هذه الحضارة الإسلامية المتوازنة الخالدة، التي تمتد أسبابها إلى السماء، وفق تصورات واضحة صحيحة، ولم يكن من باب المصادفة أن يكون فقهاء الإسلام وفلاسفته وعلماؤه وقواده من أكثر الناس اهتماماً وممارسة لفن الأدب شعراً ونثراً، ترى ذلك واضحاً عند ابن سينا والشافعي وابن المقفع والجاحظ وغيرهم من أعلام الفكر المسلمين عرباً وعجماً قديماً وحديثاً.
ولم يشغل الأقدمون أنفسهم كثيراً بفلسفة الأدب وتعريفه ومفهومه، ولقد حفل نخبة ضئيلة منهم بوضع بعض التعريفات الموجزة للأدب، وخاصة الشعر، ومن العجيب- كما يؤكد على ذلك د. نجيب الكيلاني أن هذه النظرات- ولا أقول التعريفات- ضمت بصفة عامة ما جال وصال فيه النقاد ومؤرخو الأدب المحدثين.
ولقد وجدنا فئة منهم تهتم بنفعية الأدب أكثر من اهتمامها بمؤثراته الأخرى، بينما نجد فئة ثانية تركز على النواحي الجمالية والتأثيرية، في حين أن فئة ثالثة جمعت بين المنفعة والجمالية، وهي المدرسة الوسط التي كانت لها الغلبة في الأدب العربي القديم، والتي نرى أنها معبّرة عن الرؤية الإسلامية في فنون الأدب.
وفي معناها قال الجاحظ: «فإذا كان المعنى شريفاً واللفظ بليغاً وكان صحيح الطبع بعيداً عن الاستكراه ومنزهاً عن الاختلال مصوناً عن التكلف صنع القلب صنع الغيث في التربة الكريمة». والجاحظ في هذا لم يبتعد عمّا قصده «أوستن وارين» في كتابه «نظرية الأدب» حين قال: «حين يؤدي العمل الأدبي وظيفته تأدية ناجحة فإن نغمة الفائدة ونغمة المتعة لا يجوز أن تتعايشا فقط بل يجب أن تندمجا».
وهذا أيضاً ما نجده في كل الفنون الإسلامية التي ربطت بين النافع والجميل، وعبرت دائماً عن تذوق الأمة وإحساسها الجمالي، فالعمارة مثلاً ظلت دائماً في أيدي معماريين وعرفاء من صميم جمهور الناس، وممن ظلت شعلة الإيمان حية في قلوبهم، فظل المسجد دائماً مظهراً صادقاً من مظاهر الإيمان، وسواء وقفت في جامع قرطبة، أو تحت قبة مسجد بايزيد في الأستانة، فإنك تحس بالإسلام إحساساً قوياً شاملاً عميقاً... والمساجد، كانت مجالا للفنانين، وكذلك سائر العمائر الإسلامية –صوروا فيها أحاسيسهم وهي أحاسيس الأمة.
وإن كان هذا لا ينسينا أن كثيراً ما يخضع عمل الفنان للطلب، وعليه فإن التغيرات التي تحدث في اتجاهات وأعمالهم الفنانين لا تتعلق فقط بالفنان، وإنما تعبر كذلك عن المشترين الجدد ورؤاهم الجمالية، وقد كان الأمراء والحكام والأثرياء هم أساس تمويل أعمال الفنانين، فوضعوا لذلك أنماطاً معينة للتعبير عن حاجاتهم ورغباتهم وأفكارهم، وبالتالي كان الفنانون أقرب إلى الحرفيين، وهذا لا ينفي أيضاً كونهم مبدعين، ولكنهم مبدعين ضمن شروط محددة.
نجد ذلك واضحاً في تراثنا الفني العربي والإسلامي، مع انتشار ورواج الطلب على نسخ القرآن الكريم وتذهيبه، وفي المخطوطات وازدهار فن الخط العربي سواء على صفحات الكتب والمجلدات أو على جدران المساجد والقصور، وكذلك مع ازدياد الطلب على فن حفر الأرابسك على الخشب والمعادن لاستخدامه في المساجد والقصور.
ولكن في كل الأحوال نجد أن المنفعة تعانق الجمال في كل صور الفنون الإسلامية، فلم ينفصل تذوق الجمال فيها عن تحقيق كثير من الفوائد والمنافع والوظائف، فارتبط الجمال فيها بتحقيق نوع من الكمال والتمام مرتبطاً ارتباطاً وظيفياً بتحقيق الوظائف والغايات العملية في آن واحد.
ولذلك فلم يواجه الفن الإسلامي مشكلة الانفصال بين الشكل والمضمون أو الصورة والمادة، كما نجد هذا الفن يقف في منتصف الطريق تماماً بين الإدراك الوجداني الحسي، والفهم العقلي المجرد، فهو يمتاز على الإدراك الحسي بأنه لا يرتبط بواقع الموضوع إلا مع ارتباطه بظاهره وشكله، وهو لا يريد أن يجعل من هذا الموضوع شيئاً وظيفياً له «منفعة» ما.
والذي يجب أن يراه فيه ليس واقعه المادي، ولا الفكرة المجردة في تعميمها الواسع، بل صورة محسوسة ونقية من حقيقة هذا الموضوع وجوهره، شيئاً «مثالياً» ينم عنه ويظهر فيه، فنجد الفن الإسلامي يرتبط فيه الحسي والمثالي ربطاً يحاول دائماً أن يكون عادلاً متسقاً، فجاءت أهدافه تأملية ذات صبغة نفعية، فهو جميل يحقق منافع وخيرات إنسانية.
وقد يتأثر الوجدان الإسلامي في كل الفنون العربية، بهذه الخاصية من كتابه المقدس المتعالي في إبداعه الفني الذي لا يضارع، وهو القرآن الكريم، الذي حين يستمع إلى تلاوته الإنسان المسلم تنتابه كل ألوان الوجدانات من البكاء، والغبطة، والدهشة، والخوف والتضحية والسعادة والخشوع والإحسان، وهو في كل ذلك متأثر بمعنى الآية وبفصاحتها على حد سواء، بمعناها الواقع وبفصاحتها التي تتمثل في التصورات والأخيلة والبناء اللغوي المعجز.
وتكرار هذه التجربة عينها من آية إلى أخرى يفتح الوجدان، ويملؤه بالقوة الدافعة التي تدفع به إلى الاستمرار أو التكرار إلى ما لا نهاية «وهنا يبدو الشكل والمضمون أو الصياغة والمعنى في وحدة كاملة يقود في النهاية إلى الوعي بعظمة الحقيقة الإلهية إلى الوعي بلانهاية الذات الإلهية، وبعدم إمكانية التعبير عنها، أي بتنزيهها».
ومن هنا صار الفن الإسلامي وسيلة حضارية جمعت الوجدان الإسلامي على الرغم من تباعد الأقطار الإسلامية، وتعدد أنظمتها السياسية بتعدد الأقطار والأمصار، وكان اتجاه الفن الإسلامي إلى المحافظة على انسجام نمطي عام، جعل هذا الفن وكأنه لغة مشتركة أوسع من جاذبية اللغة العربية نفسها، أو حتى الحروف العربية، ولم يكن يفوقه إلا الدين، ومن هنا جاء تأثيره الشامل على جماعة تسود الأمية أفرادها، وتتميز بالتقشف العام في حياتها، ولكنها مع ذلك حساسة انفعالياً، وهي جماعة تحاول دائماً أن تجد طريقها إلى الخلاص «من متاعب الدنيا» دون تدخل من قديس أو واسطة من كهنوت.
ومرجع هذا شمولية الرؤية الإسلامية للحياة، التي تنطبق على أبسط صورها كما تتمثل في الحياة اليومية للإنسان المسلم، وتستغرق أرقى وأعقد نشاطاتها في كل صور الإبداع والتكوين التي تنتج من بناء المسلم لحضارته وثقافته.
فالثياب «للمنفعة المادية» وللتجمل كذلك.. وقد قال رسول الله_- لعمر بن الخطاب وقد رآه لبس ثوباً جديداً: « البس جديداً، وعش حميداً، ومت شهيداً، ويرزقك الله قرة عين في الدنيا والآخرة ».
ولقد ميز الإسلام ما بين طلب الجمال، والاستمتاع به، عندما يحكمه الاقتصاد والاعتدال، وعندما يكون شكراً لأنعم واهب الجمال، وبين «الكبر» الذي نهى عنه الإسلام، وتوعد مقترفيه. فعندما قال رسول الله_-في الحديث الذي يرويه ابن مسعود:«لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، ولا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة من كبر» عند ذلك قال رجل: «يا رسول الله، إني ليعجبني أن يكون ثوبي غسيلاً، ورأسي دهيناً، وشراك نعلي جديداً –وذكر أشياء حتى ذكر علاقة سوطه- أفمن الكبر ذلك يا رسول الله؟ فقال رسول الله_: «لا! ذلك الجمال، إنّ الله جميل يحب الجمال. ولكن الكبر من سفه الحق وازدرى الناس»!.
وأيضاً فليس هذا الجمال هو «البغي» الذي نهى عنه الإسلام، ولقد سأل الصحابي مالك بن مرة الرهاوي، رسول الله_- فقال: يا رسول الله، قد قسم لي من الجمال ما ترى، فما أحب أحداً من الناس فضلني بشراكين فما فوقهما! أفليس ذلك هو البغي؟ فقال-_: «لا! ليس ذلك هو البغي، ولكن البغي من بطر- أو قال: سفه الحق وغمط الناس»14. فالحرص على التجمّل إلى حد التنافس في الاتصاف بصفاته والجمع لمؤهلاته، ليس من البغي الذي ينهى عنه الإسلام.
وليس «المنفعة المادية» فقط هي غاية خلق الدنيا وتسخيرها للإنسان، إن الجمال والزينة كذلك منفعة محققة ولازمة، أيضاً للإنسان، والبحار التي سخرها خالقها للإنسان لا تقف منافعها عند المنافع المادية –اللحم الطري، وسبل الاتصال- وإنما ابتغاء الحية والزينة والجمال أيضاً من منافعها «وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله لعلكم تشكرون».
وعندما يشير الله سبحانه إلى بعض من نعمه وآياته، نرى قرآنه الكريم يلفت النظر إلى ما أنزل من السماء من ماء تمتلئ به الأودية فيحيي الأرض ويزينها للناظرين، وإلى ما يستخرجه الإنسان بالنار من حلي الزينة والجمال، المستخرجة من معادن الأرض. ففي الزرع: طعام، وزينة، وفي الذهب والفضة: نقد وحلية وجمال يتجمل به الإنسان «أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله، كذلك يضرب الله الحق والباطل، فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، كذلك يضرب الله الأمثال».
إن هذا الجمال وتلك الزينة، هي آيات الله، أبدعها وبثها في هذا الكون، وأمر الإنسان أن ينظر فيها، إذن فالنظر في الجمال والاستقبال لآيات الزينة، وفتح قنوات الإحساس الإنساني على صنع الله هذا، هو امتثال لأمر الله سبحانه وتعالى «انظروا إلى ثمره وينعه« أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها».
هذا النظر في هذه الآيات، هو سبيل من سبل الاستدلال على وجود الله، وعلى كمال قدرته وبديع صنعته، وما تعطيل النظر في آيات الجمال هذه باصطناع الخصومة بين الإسلام وبين جماليات الحياة إلا تعطيل للدليل على وجود الصانع المبدع بهذه الآيات!
ولذلك يؤكد الباحث الدكتور محمد عمارة أنه يستوي هذا التعطيل للنظر –بقمع أدواته وسد قنواته وإهمال ملكاته- النظر المجرد من الإحساس بآيات الجمال المودعة في هذه المخلوقات! فالذين لا يرون في المحيط الذي يعيشون فيه غير «المنافع المادية» ولا ترى بصائرهم آيات الجمال في هذا المحيط، لا شك أنهم معنيون وموصوفون بقول الله سبحانه: « لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون».
كذلك فإن تنمية الإحساس الجمالي لدى الإنسان المؤمن هو تنمية للملكات والطاقات التي أنعم بها عليه الله، وفي ذلك الشكر لله الذي أنعم بها. وإن في استخدام هذه الملكات سبلاً للاستمتاع بما خلق الله في هذا الكون من آيات الزينة والجمال والشكر لله على نعمة خلقه لهذه الزينة ولهذا الجمال.
ولكن هذا لا ينسينا الضوابط التي وضعها الإسلام للاستمتاع بالحياة وجمالها، ولقد كان رسول الله_- يرى أن الدنيا جميلة حلوة وأن جمالها لا يتم بغير العمل وفق شريعة التوحيد فقال عليه السلام: «إن الدنيا حلوة خضرة وأن الله استعملكم عليها فناظر كيف تعملون».
من أجل هذا حذر -_- المسلمين من أن يسلموا عقولهم ونفوسهم لحلاوة الدنيا وزخارفها... لقد حذر -_- جمالها بغير أن يشوه هذا الجمال فقال: «أخوف ما أخاف عليكم مما يخرج لكم من زهرة الدنيا قالوا: وما زهرة الدنيا؟ قال: بركات الأرض». وقال: «فوالله ما أخشى عليكم الفقر وإنما أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم».
ومن هنا ، فإن الزهد الذي جاء به القرآن مما لا يشوه وجه الحياة الجميل النبيل، فيه تضبط الأهواء بغير إرهاب أو إعنات يهيض النفس ويستذلها، فهو ضابط به تحكم الطاقات في حركتها فلا تندفع اندفاعاً أهوج محطماً النفس والمجتمع. والعقيدة في الأساس هي معيار به تقاس سرعة الطاقات وتقاس به درجة الأعمال ومدى أصالتها وصلاحيتها للنهوض بالإنسان المسلم وبالمجتمع والأمة «وابتغ في ما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين».
وحين قال الله تعالى ، وهو أصدق القائلين: «والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون. ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون. وتحمل أنعامكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، إن ربكم لرؤوف رحيم. والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة، ويخلق ما لا تعلمون».
فإننا نجد كلمة «زينة» تكشف مدى العلاقة الوثيقة بين وحدة النفع والجمال، أيا كانت درجة الجمال، أو درجة النفع في الشيء، وقبل كلمة «زينة» كانت كلمة «جمال» بصريح لفظها في آية مستقلة «ولكم فيها جمال» وكان تقديم الخيل على البغال، والبغال على الحمير تأكيداً لما نقول وتمهيداً لما فهمنا، وفي بعض الحديث: «اطلبوا الحوائج عند حسان الوجوه» وعلى هذا إذا أمكن للفنان أن يضيف وحدة النفع ولم يفعل فقد قصر أو قعد.
ومن هنا وجدنا أنه لا تعارض بين الجميل والنافع في كل الفنون والآداب الإسلامية. ولا يستطيع أحد أن ينكر أن الأدب كان عنصراً من عناصر هذه الحضارة الإسلامية المتوازنة الخالدة، التي تمتد أسبابها إلى السماء، وفق تصورات واضحة صحيحة، ولم يكن من باب المصادفة أن يكون فقهاء الإسلام وفلاسفته وعلماؤه وقواده من أكثر الناس اهتماماً وممارسة لفن الأدب شعراً ونثراً، ترى ذلك واضحاً عند ابن سينا والشافعي وابن المقفع والجاحظ وغيرهم من أعلام الفكر المسلمين عرباً وعجماً قديماً وحديثاً.
ولم يشغل الأقدمون أنفسهم كثيراً بفلسفة الأدب وتعريفه ومفهومه، ولقد حفل نخبة ضئيلة منهم بوضع بعض التعريفات الموجزة للأدب، وخاصة الشعر، ومن العجيب- كما يؤكد على ذلك د. نجيب الكيلاني أن هذه النظرات- ولا أقول التعريفات- ضمت بصفة عامة ما جال وصال فيه النقاد ومؤرخو الأدب المحدثين.
ولقد وجدنا فئة منهم تهتم بنفعية الأدب أكثر من اهتمامها بمؤثراته الأخرى، بينما نجد فئة ثانية تركز على النواحي الجمالية والتأثيرية، في حين أن فئة ثالثة جمعت بين المنفعة والجمالية، وهي المدرسة الوسط التي كانت لها الغلبة في الأدب العربي القديم، والتي نرى أنها معبّرة عن الرؤية الإسلامية في فنون الأدب.
وفي معناها قال الجاحظ: «فإذا كان المعنى شريفاً واللفظ بليغاً وكان صحيح الطبع بعيداً عن الاستكراه ومنزهاً عن الاختلال مصوناً عن التكلف صنع القلب صنع الغيث في التربة الكريمة». والجاحظ في هذا لم يبتعد عمّا قصده «أوستن وارين» في كتابه «نظرية الأدب» حين قال: «حين يؤدي العمل الأدبي وظيفته تأدية ناجحة فإن نغمة الفائدة ونغمة المتعة لا يجوز أن تتعايشا فقط بل يجب أن تندمجا».
وهذا أيضاً ما نجده في كل الفنون الإسلامية التي ربطت بين النافع والجميل، وعبرت دائماً عن تذوق الأمة وإحساسها الجمالي، فالعمارة مثلاً ظلت دائماً في أيدي معماريين وعرفاء من صميم جمهور الناس، وممن ظلت شعلة الإيمان حية في قلوبهم، فظل المسجد دائماً مظهراً صادقاً من مظاهر الإيمان، وسواء وقفت في جامع قرطبة، أو تحت قبة مسجد بايزيد في الأستانة، فإنك تحس بالإسلام إحساساً قوياً شاملاً عميقاً... والمساجد، كانت مجالا للفنانين، وكذلك سائر العمائر الإسلامية –صوروا فيها أحاسيسهم وهي أحاسيس الأمة.
وإن كان هذا لا ينسينا أن كثيراً ما يخضع عمل الفنان للطلب، وعليه فإن التغيرات التي تحدث في اتجاهات وأعمالهم الفنانين لا تتعلق فقط بالفنان، وإنما تعبر كذلك عن المشترين الجدد ورؤاهم الجمالية، وقد كان الأمراء والحكام والأثرياء هم أساس تمويل أعمال الفنانين، فوضعوا لذلك أنماطاً معينة للتعبير عن حاجاتهم ورغباتهم وأفكارهم، وبالتالي كان الفنانون أقرب إلى الحرفيين، وهذا لا ينفي أيضاً كونهم مبدعين، ولكنهم مبدعين ضمن شروط محددة.
نجد ذلك واضحاً في تراثنا الفني العربي والإسلامي، مع انتشار ورواج الطلب على نسخ القرآن الكريم وتذهيبه، وفي المخطوطات وازدهار فن الخط العربي سواء على صفحات الكتب والمجلدات أو على جدران المساجد والقصور، وكذلك مع ازدياد الطلب على فن حفر الأرابسك على الخشب والمعادن لاستخدامه في المساجد والقصور.
ولكن في كل الأحوال نجد أن المنفعة تعانق الجمال في كل صور الفنون الإسلامية، فلم ينفصل تذوق الجمال فيها عن تحقيق كثير من الفوائد والمنافع والوظائف، فارتبط الجمال فيها بتحقيق نوع من الكمال والتمام مرتبطاً ارتباطاً وظيفياً بتحقيق الوظائف والغايات العملية في آن واحد.
ولذلك فلم يواجه الفن الإسلامي مشكلة الانفصال بين الشكل والمضمون أو الصورة والمادة، كما نجد هذا الفن يقف في منتصف الطريق تماماً بين الإدراك الوجداني الحسي، والفهم العقلي المجرد، فهو يمتاز على الإدراك الحسي بأنه لا يرتبط بواقع الموضوع إلا مع ارتباطه بظاهره وشكله، وهو لا يريد أن يجعل من هذا الموضوع شيئاً وظيفياً له «منفعة» ما.
والذي يجب أن يراه فيه ليس واقعه المادي، ولا الفكرة المجردة في تعميمها الواسع، بل صورة محسوسة ونقية من حقيقة هذا الموضوع وجوهره، شيئاً «مثالياً» ينم عنه ويظهر فيه، فنجد الفن الإسلامي يرتبط فيه الحسي والمثالي ربطاً يحاول دائماً أن يكون عادلاً متسقاً، فجاءت أهدافه تأملية ذات صبغة نفعية، فهو جميل يحقق منافع وخيرات إنسانية.
وقد يتأثر الوجدان الإسلامي في كل الفنون العربية، بهذه الخاصية من كتابه المقدس المتعالي في إبداعه الفني الذي لا يضارع، وهو القرآن الكريم، الذي حين يستمع إلى تلاوته الإنسان المسلم تنتابه كل ألوان الوجدانات من البكاء، والغبطة، والدهشة، والخوف والتضحية والسعادة والخشوع والإحسان، وهو في كل ذلك متأثر بمعنى الآية وبفصاحتها على حد سواء، بمعناها الواقع وبفصاحتها التي تتمثل في التصورات والأخيلة والبناء اللغوي المعجز.
وتكرار هذه التجربة عينها من آية إلى أخرى يفتح الوجدان، ويملؤه بالقوة الدافعة التي تدفع به إلى الاستمرار أو التكرار إلى ما لا نهاية «وهنا يبدو الشكل والمضمون أو الصياغة والمعنى في وحدة كاملة يقود في النهاية إلى الوعي بعظمة الحقيقة الإلهية إلى الوعي بلانهاية الذات الإلهية، وبعدم إمكانية التعبير عنها، أي بتنزيهها».
ومن هنا صار الفن الإسلامي وسيلة حضارية جمعت الوجدان الإسلامي على الرغم من تباعد الأقطار الإسلامية، وتعدد أنظمتها السياسية بتعدد الأقطار والأمصار، وكان اتجاه الفن الإسلامي إلى المحافظة على انسجام نمطي عام، جعل هذا الفن وكأنه لغة مشتركة أوسع من جاذبية اللغة العربية نفسها، أو حتى الحروف العربية، ولم يكن يفوقه إلا الدين، ومن هنا جاء تأثيره الشامل على جماعة تسود الأمية أفرادها، وتتميز بالتقشف العام في حياتها، ولكنها مع ذلك حساسة انفعالياً، وهي جماعة تحاول دائماً أن تجد طريقها إلى الخلاص «من متاعب الدنيا» دون تدخل من قديس أو واسطة من كهنوت.
مواضيع مماثلة
» بري القلم وشروط الخط الجميل
» الإبداعية في الفنون التشكيلية والعمارة
» معهد الفنون والحرف بسيدي بوزيد
» الإبداعية في الفنون التشكيلية والعمارة
» معهد الفنون والحرف بسيدي بوزيد
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى